انتزع نفسه من الموقف .. ما أن شرعت الأم فى معاودة إلحاحاتها لاثناء ابنها عن عزمه .. تملص الأب .. تركه لها وخرج قائلا له : سأنتظرك عند المحل .
وهناك .. على الرصيف المقابل لمطعم الفول والطعمية وضعوا له كرسيا .. يستطيع أن يتخيل ما يدور فى البيت الآن .. الأم تتابع الابن وهو يرتدى بدلته اليتيمة .. يضبط الكرافت .. يسوى شعره .. تتعمد أن تريه دموع عينيها .. تحدثه بلهف : ابنى الوحيد ؟ .. الشاب الصغير يتزوج من مطلقة - بل ستقبح له اللفظة.. نعم ستقولها - ابنى الوحيد يتزوج من «ست خرج بيت» .. أهكذا تحرمنى أن أفرح بك .. وحدى من بين الأمهات أحرم رؤية ابنى وبجواره «بنوته حبوبة» قلبها بكر لم يجرحه أحد !! .. لا أعرف كيف يوافقك أبوك على فعلتك ؟! .. لكن ليه ؟ .. طول عمرى يعتبر الزواج رابطة سهلة .. مجرد صداقة أو صحبة طريق .. تستمر أو لا تستمر حسب حرية أطرافها .. « ما تفرقشى معاه» .. دماؤه تركية عنيدة .. يقدر على قلبه وعلى احتياجاته فى أى إنسان .. لولا إرادتى فى أن أصونك وشقيقتيك لضاع هذا البيت وضعتم .
وكأنه فى حال دفاع عن نفسه أمام ابنه الشاب : بل ظللت دوما أحب أمك واحترمها .. بعضهن لا يفصلن بين الحب وإرادة العيش فى كنفه .. فلأنى أحبها أصون أن تغلب حريتها فى العيش معى قيد زواجنا ومطلبى فيها .. لكنها تريد أن تشعر دائما أن رصاصة قتل محبها فى يدها .. فى طلب منها بالانفصال يجب أن تراه يوجع قلبه ويؤلم روحه !! طالما صدمها عشقى للحرية فى نفسى وفى غيرى !! .. ولولا ثقافتى فيهن لضيعت هى البيت وضيعتكم فى جلالة غضبه .
انتبه لضوضاء على الرصيف المقابل .. زحام هناك عند محل الفول والطعمية .. أحدهم تبرم من طول انتظاره لمشترواته .. حدث يتكرر كثيرا .. تنفرج شفتاه بابتسامة ساخرة .. كأن الناس قد خلقوا ليأكلوا فحسب !! لما كان المحل مكتبة يديرها هو فى بيع الكتب المستعملة كتجارة رائجة من قديم انتهى فى آخر سنواته كمكان قفر لا يطرقه بشر !! .. اليوم صاروا يتكالبون على ذات المحل لكن من أجل الفول والطعمية .. أسف ممزوج برضا من صواب رؤيته المستقبلية .. قال ان المستقبل للمطاعم والمقاهى .. لملم النفيس من الكتب ليجعلها فى مكتبة بيته رهينة طلب من تدعوه حاجته له ويستطيع أن يقدر قيمتها .. ترك المحل بمقابل جعله قسمة بين ابنتيه .. زوج الكبرى بنصيبها .. وأودع نصيب الأخرى فى أحد البنوك واقسم يمينا مغلظا ما تمتد إليه يده إلا لزواجها مهما طرأ من الطوارىء .
تأخر الابن .. الأب يراهن بفطنته على مجيئه .. نعم .. لن تتغلب الأم فتثنيه عن موعده ومشروعه .. حتى لو استنفدت ماء جسدها كله دموعا .. ليس لأنه متيم بامرأة سبق لها الزواج .. أحد لا يتحدث بالحقيقة .. الجميع يجمل دوافعه ويخفيها .. العجز عن الحق سيد الكذب وأستاذ نفاق النفس .. ناهز الثلاثين ومازال يعمل استثناء بعقد عمل مؤقت هزيل .. يأكل . يشرب . ينظف ملابسه . ينام . استثناء فى بيت أبيه .. يحب . يتزوج . يغالب غريزته استثناء فى مناماته وأحلام يقظته !! الدنيا فى عينيه «خرم إبره» يتصاغر العقل أمام خرم إبره ليتشبث بنهاية فتلة تمرره من ذات «الخرم»!! .. مجنونة زوجتى !! تتصورنى أقطع بيدى «فتلة» تشبث بها غول الغريزة فى ابنى الاستثنائى الحياة ؟! .. أخسره للأبد ؟! .. لأدعها تمرره أو تنقطع من ذاتها .. لماذا لا نعامل «فتلة» ابنى كسائر مشكلات حياتنا التى نعايشها ولا نقطع فيها أمرا ؟!
لاح ابنه من بعيد كفلقة القمر فى عينيه .. تبسم لفطنته الغالبة .. لكن .. سرعان ما ابتعلت ذات الفطنة ابتسامته لما لوحت له بمدى التماس الآباء العذر لأبنائهم الراشدين كما المرضى النفسانيين بعلة ظروف جيلهم !
«ميكروباصان» و «توكتوك» أوصلاهما .. طوال الطريق يكبت انتقاداته وتعليقات ساخرة تترى على مشاهداته .. لزوم مسايرة الابن .. و .. هناك .. الخال دقيق الملامح حاد نبرة الصوت . والأم نحيفة القد مسطحة الملامح. والعروس الشابة موارية التعلق بفرصة .. تحكم مطالبهم آثار تجربة زواج سابقة أنهتها ابنتهم بـ «حقى برقبتى» وخرجت منها خاوية الوفاض .. ذات التحسب أو التخوف انتقل للابن !! .. جميعهم يتحدث فى بداية بينما عيونهم على نهاية محتملة .. محتملة جدا !! .. يقبح الخال فكرة الزواج فى سكن بنظام الايجار محدد المدة .. وتطرح الأم البديل فى السكنى بحجرة من شقتها مبطنا فى حاجتها لرعاية ابنتها وعجز العريس عن تدبير سكن حقيقى .. و .. يستشعر الخذلان فى نبرة صوت ابنه وهو يتعلل ببعد سكنهم عن موقع عمله وما يكتنفه من كلفة ومشقة !! .. الكل يراوغ خفية!! .. هم يرومون لاحكام قبضتهم عليه بما سيحبس من ماله فى صورة أثاث وأجهزة فى بيت أمها .. وهو يتحسب لغدرة تفقده كل شىء وربما فاقمت عليه تبعات لايستطيعها .. وضحت فتلة ابنه تتوتر . تكاد تنقطع .. ومع وعد بلقاء آخر أيقن أنها انقطعت . بل تلاشت ليبقى «خرم الإبرة» المستحيل .. ذات الغبطة من فوز فطنته بالرهان تتملكه .. يكبتها .. تتقافز فى داخله حديث نفس ينصفه من موقف زوجته : ها قد عدت بابنى تحت جناحى بريئا من موقف ضد .. ما كنت لاستطيع أن أقطع فتلة تشبت بها غول الغريزة فى ابنى .. بمكنتى الآن أن أواسيه فى استثنائية حياته . بل استثنائية جيله !! .. الدور الوحيد الباقى للآباء من شاكلتنا !
البائس تستهويه السخرية من حاله .. لطالما انتقل بالجاد العاجز إلى ساحة السخرية ونجح فى صرف شجونه عن أن تفعل جنونه !! .. يتسرسب لنفس ابنه : فى شبابى ما كنت لأقطع مسافات طويلة من أجل هواى فى امرأة حتى لو كانت ملكة جمال الكون .. أعرف نفسى .. فبعد فترة قصرت أو طالت سأكسل عن أوافيها حيث تكون .. هيه .. طبيعتى .. معرفتى بأن كل علاقة فى أولها جميلة تهون التضحية ثم يعود كل شىء إلى طبيعته !! .. نقف على حقيقة كوننا بشراً.. كلنا .. الذكران والإناث .. نختلف كما نتوافق .. يظهرنا غضبنا فى أسوأ شكل ممكن أن نكون عليه .. نمرض ونطيب .. تلجئنا طبيعة خلقتنا للاختلاء فى حاجات مقرفة .. لا أحد منزها عن ذلك .. ثم .. زواج الاضطرار كله أضرار .
تفجر عبارات الأب ضحكات ساخرة فى ابنه .. يكرر عبارة أبيه .. «زواج الاضطرار كله أضرار» !! .. يواصل الأب : نعم . كل أضرار .. أنا لست ضد أن يرتبط شاب مثلك بمطلقة أو أرملة . شريطة أن يحبها . لا أن يهتبلها فرصة توافق فى تصوره عجزه المادى .. فبالحب نقبل فى بعضنا البعض كل ما تحتمه علينا طبيعة خلقتنا .. وبغير ذلك لا يحتمل بعضنا الآخر .. الزواج ليس المتعة الحسية فحسب .. بعدها تأتى ساعات وأيام دونها تحتاج الألفة والرحمة .. لن يقدر عليها مدفوعاً بغول الغريزة .
يتململ الابن : نعمل ايه . والدنيا كما «خرم إبراة» فى عيوننا ؟!
ييمم الأب وجهه ناحية الطريق عبر نافذة السيارة .. يعود من إطلالته القصيرة ليدعو ابنه للنظر إلى الطريق : انظر !! .. كل هذه الكتل الخرسانية على جانبى الطريق وبعمقها وكانت فى شبابى أراضى زراعية .. كل يوم تدخل قطعة فى «كردون المدن» وكأنها كانت خارجة عن قوانين الطبيعة !! لا صارت زرعا ولا صارت مدنا !! .. نحن جيل زرعنا حجرات نوم وأسرة مكان القطن والفول والقمح والطماطم !! .. علمنا الدنيا بأسرها كيف تزرع ثم تفرغنا للتناسل فى «خرم إبراه» !! .. و .. يقاطعه الابن : أقول لك نعمل إيه ؟!!
يضيق الأب بسؤال ابنه :
- أين ذكاؤك ؟! .. تسألنى وتتوسل النجاة من عندى وأنا من ذاك الجيل.
ساحة النقاش