<!--<!--<!--
رأيتها أول مرة عام 1929، وكنت إذ ذاك في بداية عهدي بالدراسة الثانوية أجاهد وزميلاتي من فتيات الطليعة من أجل حياة أفضل لم تتيسر لأجيال وأجيال من النساء قبلنا.
وكنت قد سمعت كثيرا عن هدى شعراوي، وقرأت في الصحف ألوانا من جهاد المرأة، التي تقود النساء عبر عثرات العرف وحواجز التقاليد، وتبشر بأمور غريبة على منطق المجتمع المصري.
وكنت أعرف إنها لا تخاف الرجال وإن عظموا، وتستهين بالملوك على سطوتهم، وتحارب ما اصطلح الناس عليه في سبيل دعوة جديدة حملت لواءها... فتمثلها أمرأة جامدة قاسية في وجهها صرامة، وفي نظرتها خشونة، وفي أحكامها عنف وجبروت.
هذه بغيتي!
وظلت هذه الصورة مائلة لذهني، حتى أتيحت لي رؤيتها يوم جاءت تزور مدرستنا، لتختار من التلميذات من تحسن إلقاء العربية في حفل خيري تقيمه لبعض أغراضها الاجتماعية.
ونوديت فيمن نودين، لألقي على مسامعها مقطوعة على سبيل التجربة، فدخلت إليها وفي جسدي رعدة ظاهرة، ولكن ما أن وقعت عيناي عليها، حتى تملكتني الدهشة كل الدهشة... كانت على عكس ما تصورت: أمرأة فريدة في نوعها، تتكلم بهدوء ووقار، وتبتسم بحنان واخلاص، وتتطلع بنظرات ملؤها القوة والتسامحوالمرح... كانت جميلة ترتاح العين لمرآه، أنيقة تنتزع الإعجاب بروعة هندامها، مهيبة تجبرك على إجلالها وأحترامها.
وأخذت بشخصيتها الفذة، فرحت ألقي المقطوعة وكلي رغبة في الإتقان، وعندما انتهيت، رأيتها تلتفت إلى الناظرة، وتقول لها باسمة: " هذه بغيتي!".
وهكذا عرفتها، ولم ألبث ان انخرطت في سلك مريداتها، وأخلصت لها الوفاء حتى مماتها... وبالرغم من انقصاء سبع سنوات على فراقها، مازالت لأقول مخلصة صادقة: " كانت هدى شعراوي معجزة النساء في العالم العربي، وقد أتى موتها على الزعامة الرشيدة، وخلف فراغا أوسع من أن تملأه ألف زعيمة ومتزعمة".
الثائرة الصغيرة!
وقد تعجب نساء اليوم لهذه الشخصية الفذة، ويتساءلن عما صنعها، فأقول: إن هدى صنعت نفسها بنفسها، ولولا ثورة متأصلة في خلفها، ورغبة أكيدة في أثبات وجودها، ما أستطاعت أن تبلغ نصف ما بلغته، وما أمكنها أن تفيد بلادها بخدماتها الجزيلة: فقد نشأت في بيئة مغرقة في الثراء، لا تؤمن بجهود المرأة، ولا تعترف لها بحق في التعليم والتثقيف، والفتاة فيها لا تزيد عن دمية تنعم وتتزين، لترضي نزعات الرجل الذي يكتب لها أن تتزوجه. وبيئة هكذا شأنها، تقضي على الطموح، وتشل الجهود، وتغري بالكسل والدعة، ولسكن هدى لم تكن كغيرها من بنات الأثرياء، إنما كانت شعلة تلتهب عزيمة وقوة، فحز في نفسها منذ الصغر أن يؤثر عليها أخوها عمر سلطان، فيدرس الأدب والتاريخ والغة، وهي بمباديء القراءة والكتابة قانعة.
وكانت تثور أحيانا على نصيبها الضئيل، وتلح في أن تنال حقها من العلم والمعرفة، فيردها أهلها بحزم، ويذكرونها بأنها أمرأة، فليس لها أن تتطاول إلى مقام الرجال، أو تطمع في مرتبتهم. وكثيرا ما كان هذا الكلام يقال لغيرها من بنات عهدها، فينزلن عند حكمه صاغرات، أما هدى فكانت تختلف عن غيرها، فلم ترض بفلسفة التفرقة، وعزمت أن تحقق غرضها بنفسها.
سارقة العلم!
وأتتها الفكرة ذات ليلة، وهي ترقد في فراشها مسهدة، فقامت إلى باب غرفتها تنصت، حتى إذا أطمأنت إلى هدوء البهو وسكونه، خرجت تسير في الظلام إلى مكتب والدها، ثم أختطفت أول كتاب صادفها، وعادت به إلى فراشها مسرعة.
وكان الكتاب يتضمن أشعارا بليغة أغلقت عليها معانيها، ولكن أوزان الشعر أطربتها، فظلت تقرأ وتقرأ، حتى أشرق الفجر، وغلب السكرى جفنيها.
وأخلصت الوفاء لهذا الكتاب، فكانت تلوذ به كل ليلة بعد أن تنصرف عنها مربيتها، إلى أن أنهت من قراءته، فأعادته إلى مكانه، وأتت بغيره إلى غرفتها.
وتوالت الأيام والثائرة الصغيرة تسرق العلم على غير هدى، وكانت تأتي بالكتب اعتباطا، فيحالفها الحظ مرة بمؤلف أدبي أو تاريخي يسليها، ومرة أخرى يعاندها ببحث قانوني أو فلسفي لا تفهم منه شيئا... وبين صفحات الأدب والتاريخ والعلوم والقانون والفلسفة، بدأ ذهن الفتاة يتفتح، ويزداد على مضي الزمن توسعا ونضجا، حتى تفوقت على أخيها بعد سنوات معدودات وأصبحت في شبابها مثلا في تنوع الثقافة وغزارتها.
هزيمة وإنتصار!
وظل روحها الثائر طابعا مميزا لها، ولم تفلح الصدمات في إطفاء جذوته، فكانت دائما سباقة إلى التجديد، تتقدم عصرها في التفكير، وتدعو إلى الإصلاح قبل غيرها من النساء والرجال.
وأصدق دليل على ذلك ما حدث منها عام 1907 وكانت إذ ذاك في فجر شبابها، وأوج رشاقتها وحسنها، فعز عليها أن تركن صديقاتها إلى الكسل، فتترهل أجسامهن، ويفسد قوامهن.. ولذلك أنشأت من مالها الخاص ملعبا للتنس، وأحاطته بأسوار عالية، حتى تأمن اللاعبات فيه شر العيون المتطفلة.
وراحت تنفق على إعداد الملعب بسخاء، وتبشر بالفكرة متحمسة، ولما حان يوم الافتتاح، أعدت هدى مقصفا فاخرا، ووقفت عند باب الملعب تنتظر ضيفاتها... ومضت الساعات، وجن الليل، ولم تأت سيدة واحدة، فقد خشى النساء أن يخرجن عن المألوف بالانتقاد لما يسمينه نزواتها، فتخلين عن صديقتهن في آخر لحظة، وهزمنها وهي في أوج نصرها!.
ولكن هدى لم تخسر الجولة على طول الخط، ففي الأسبوع التالي حلت البنات في الملعب محل الأمهات، وبذلك فشلت الفكرة مع الكبيرات، ونجحت تمام النجاح مع الصغيرات!
شهادة بحسن السير والسلوك!
والمجد يأتي عادة مع خبرة الأيام وحكمة السن، ولكن هدى استطاعت أن تدعم مكانتها وهي ما تزال في فجر حياتها، فعرفها المجتمع المصري فتاة ذكية مفكرة، تتكلم مثلما يتكلم الرجال، وتفعل ما لا يفعل النساء... وأحاطت باسمها هالة من الشهرة، وأحترمها الناس، وأسرفوا في خطب ودها، حتى لم يكن يخلو من وجودها حفل صغير أو كبير، ويقال إنه خلال أربع سنوات متتالية، لم تقم وليمة في مصر، ألا وكانت هدى على رأس مدعواتها.
وكانت تعرف فيما بينها وبين نفسها أنها مدينة لثقافتها بمكانتها، وعز عليها أن تكون في هذا الباب فريدة بين النساء عصرها، فجعلت تدعو إلى تعليم البنات، وتنادي بوجوب توفير المدارس لهن، ولكن دعواتها لم تلق نجاحا، ولم يشأ أحد أن يعينها على فتح مدرسة.
وحانت الفرصة عام 1910، إذ جاءتها صديقاتها يقترحن عليها أن تؤسس لهن جمعية نسوية تخدم الأغراض الاجتماعية، فاشترطت هدى لقبول الفكرة، أن تفتح الجمعية مدرسة للبنات تتسع لمائة فتاة على الأقل... ونزل السيدات عند إرادتها، فألفن جمعية مبرة محمد علي، وأستاجرن بيتا فسيحا للمدرسة، أعددنه بكل ما يحتاج إليه التعليم من إدراج ومقاعد وكتب وخرائط وأقلام.....
وقبل موعد الإفتتاح بأسبوعين، بعثت الحكومة إلى الجمعية تنبئها بأنها لن تسمح بتحقيق مشروع المدرسة، قبل أن تقدم كل سيدة من الأعضاء شهادة من شيخ الحارة بحسن السير والسلوك!.
وكانت إهانة بالغة أنكرتها هدى الأبية المتكبرة، فأقفلت أبواب المدرسة قبل أن تفتح، وتوجهت بجهود الجمعية إلى مكافحة وباء انتشر في مصر إذ ذاك.
مخابيء تحت الحبرة!
وظلت هدى تكافح وحدها، ونساء مصر في غيبوبة شديدة، حتى قامت الثورة الوطنية عام 1919، وخرج الرجال والفتيان ينادون بحقهم من الحرية والاستقلال... وقابلهم المحتل بالرصاص، فقتل آباء وأزواج وأخوة وأبناء، وعندئذ فقط تيقظت المصريات على هول فجيعتهن في أحبابهن، وخرجن وراء هدى في مظاهرة ضخمة.
وطافت هدى الطرقات بالنساء، وهاجمت دور الحكومة ومصالحها، ونظمت مقاطعة بارعة للبضائع الإنجليزية، وبذلك أثارت غضب الإنجليز، فألقوا القبض عليها.
وأفرج عن هدى، والثورة لاتزال طاحنة، فأغرتها وطنيتها بفكرة ناجحة، وهي إنشاء جمعية نسائية جديدة تكون رسالتها المعروفة خدمة المرأة، ورسالتها المجهولة تمكين زعماء الثورة من الاجتماع في خفية من المستعمر.
وهكذا تألفت جمعية المرأة الجديدة، وكان قادة الثورة يلجأون إليها كل ليلة تحت ستار الظلام، فيكتبون المنشورات ويطبعونها، ثم يعطونها لهدى شعراوي، فتخفيها تحت " حبرتها" السوداء الفضفاضة، وتوزعها على جنود الثورة في مختلف البلاد!.
مصرع الحجاب:
وكانت هدى شديدة الإيمان ببنات جنسها، عظيمة الثقة في قدرة المرأة على خدمة بلادها، ولكنها كانت تشعر أن الحجاب يقف سدا منيعا دون تحقيق الخير الذي تبتغيه، لذلك نقمت عليه، وبيتت له في نفسها أمرا.وكانت أخبار الدور السياسي الذي لعبته خلال الثورة، قد وصلت إلى أوروبا، فبعث إليها الاتحاد النسائي الدولي عام 1923، يدعوها إلى الاشتراك في مؤتمر عالمي تقرر عقده في روما... وقبلت هدى الدعوة، وأقنعت صديقتين بمرافقتها، فسافرت الثلاث إلى المؤتمر، وأبلين بلاء حسنا، كان له أثره في إقناع الغربيات بفضائل المصرية المتعلمة.
وحمل البرق أنباء انتصار المصريات في المؤتمر، ففرح الناس وأغتبطوا، وقرروا أن يستقبلوهن عند العودة في احتفال شعبي باهر.ووقفت الباخرة في ميناء الاسكندرية، والجماهير محتشدة في انتظار المنتصرات، وكانت هدى وزميلتاها قد اتفقن على رأي، فخرجن إلى المستقبلين محجبات، ولما تطلعت إليهن العيون، وتركزت عليهن الأنظار، رفعن أيديهن إلى الحجاب يخلعنه عن وجوههن، ثم ألقين به في البحر غير آسفات!.
وزمجرت الجماهيرغاضبة، ولكن كان بين المستقبلين نساء، فأنبرين إلى إنقاذ الرائدات، وخلعن الحجاب بالمثل، وأسفرن عن وجوههن!.
وبهذه الجرأة الفريدة، حطمت هدى أسوار ألتزمت، وأنطلقت بنساء مصر إلى عالم النور، ولكنها دفعت الثمن غاليا: فقد سلقها الناس بألسنة حداد، ورموها بأفذع التهم والإهانات، وحتى زوجها غضب عليها، فأنفصل عنها!.
أناقة وإفلاس!
وقد تعودنا من صاحبات الرسالات الكبرى، أن يشغلهن الجهاد عن العناية بأنفسهن، فيزهدن في متاع الدنيا وزخرفها، ولذلك قيل أن الكفاح يقضي على أنوثة المرأة، والجهاد يكسبها خشونة منفرة.
ولكن هدى شذت عن القاعدة، وبالرغم من جهادها المتواصل، لم تنس لحظة واحدة أنها إمرأة، فظلت طول حياتها جميلة رشيقة أنيقة، تجتذب القلوب بفطنتها وعملها، مثلما تجتذبها بحسن هندامها وروعة ملبسها.
ولم تكن تغفل عن أداء واجبها نحو أنوثتها، حتى في أشد أوقاتها ضيقا وبؤسها، ومن ذلك ماحدث لها خلال فترة إنفصالها عن زوجها... كانت تعيش وحدها، وكان زوجها ناظرا على وقف أسرتها، فقتر في إمدادها بالنقود، ليضطرها إلى الخضوع والتسليم.... ولكن كبرياءها أبت عليها أن تهزم، فاحتملت الضيق صابرة، وعاشت في الضنك راضية... ثم حدث ذات يوم أن دعتها صديقة حميمة إلى وليمة تقيمها، وكان حضور الوليمة يستلزم " حبرة" جديدة غير التي أتى عليها القدم، ولم تكن هدى تملك مالا تشتري به الحبرة المطلوبة، فاستقر رأيها على التخلف بعذر تنتحله لصديقتها.!
وبينما هي تجلس إلى نفسها حزينة، جاءتها الخادم الحبشية بنبأ "دلالة" تسأل عند الباب إذا كان أهل البيت في حاجة إلى أقمشة شعبية، فأذنت هدى للمرأة بالدخول على سبيل التسلية... وراحت تقلب البضاعة الرخيصة، وتتلهى بالتفرج على أشكالها وألوانها، حتى عثرت يدها على قطعة من نسيج " الكريشة" الرخيص الذي لم تتعود السيدات ارتداءه... وأعجبها النسيج الرخيص، وطرأ لها أن تصنع الحبرة منه، فأشترت كفايتها، وحاكت " الحبرة" بنفسها، وبذلك استطاعت أن تلبي الدعوة في حلة جديدة لم تكلفها أكثر من قروش معدودات!.
وظنت سيدات الطبقة الراقية أنه ابتكار جديد يمثل أحدث اتجاهات الموضة، فقلدنها جميعا، وصنعن حبراتهن من " الكريشة" السوداء ولم يلبث هذا الطراز إن شاع في مصر كلها، فارتدته المصريات من مختلف الطبقات، دون أن يعرفن السر المختفي وراءه.
الزعيمة الخالدة!
وبقدر ما قاست هدى في شبابها، تغيرت نظرة الرأي العام إليها في شيخوختها، فقدر الناس عظمة رسالتها، وآمنوا بقيادتها وزعامتها، وكرموا فيها الجرأة التي أتت لنساء مصر بحقوق ماكن يحلمن بها.
ولم تهدأ هدى عن الكفاح في سنها المتقدمة، لأنها كانت تخلص في إيمانها بقضيتها، مع إنها حصلت من الملك السابق على أعلى وسام في الدولة، وكانت مقربة إلى السراي في كل عهد، غير إنها لم تتوان عن رفع لواء العداء لفاروق، عندما شغلته نزواته عن الوطن، وانتهى به الأمر إلى طلاق فريدة زوجة الأولى.
وكانت هدى- والحق يقال- مرة في نقدها للملك السابق، جريئة في الجهر بخصومتها على رؤوس الأشهاد، قاسية على من كانوا يعاونونه في استهتاره، أمراء أو كبراء، وبذلك أثارت نقمته عليها، فطاردها وخاصمها وقطع كل صلة للسراي بها.
وعندما أنتوت أن ترد له وسامه، فاجأتها المنية على غير انتظار، وفاضت روحها ذات ليلة قبل أن تحقق غرضها.
وأشهد أن جنازتها كانت أعظم ما زالت في حياتي، فقد اشتركت فيها كل الهيئات والطبقات، وشيع جثمانها الرجال قبل النساء، وبكاها الفقراء قبل الأغنياء، ولا غرابة فقد كانت هدى أعظم محسنة.
كانت هدى تشعر بدنو أجلها طوال عامها الأخير، فنظمت هذه القصيدة قبل موتها بوقت قصير:
اليوم لا تبكوني أني قضيت ديوني
لم يبق للعيش شأن عندي ولا للمنون
حررت من كل آسر ومن سهاد جفوني
نزلت دار البقاء فيها تلاشت شجوني
فيها أواجه ربي جوار من سبقوني
فاليوم داري قبري ونعم دار السكون
به تصان رفاتي من حادثات القرون
ساحة النقاش