<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";} </style> <![endif]-->

الاستسلام لبعض العيوب التي لا سبيل إلى التغلب عليها أخف بكثير من الحرب الخاسرة التي نعلنها فيضحك منها الناس...

 

منذ أكثر من عشرين عاما، وكنت أيامها في عزالشباب...

ابن خمس وعشرين سنة. وابن القرية.وابن أبوين طيبين فقيرين جاهدا حتى جعلا مني مدرسا في المدارس الأولية.

ولما أنقضى عامان على توظفي، فرحا بي، فزوجاني قبل أن يخطفهما الموت فلا يريان أبنهما وهو يأخذ " أدواته" ليستأنف " العمل" في " حقل" الحياة... العظيم!

 وكأنما لم يكن في خيال أسرتنا الصغير المطمئنة من أمل بعد ذلك. فتنهد أبواي بارتياح بعد ما سلما علي أنا وزوجتي قبيل سفري من عندهم وبدأ على وجهيهما وكأنما أصبحا لا يخافان الموت بعد أن تحققت لهما أمنيتهما الأخيرة.

ورأت زوجتي أضواء القاهرة الباهرة للمرة الأولى في حياتها ونحن نركب عربة الحنطور هي في ثيابها الجديدة الزاهية الواقفة في نصف الطريق بين تفصيل القرية وتفصيل المدينة، وأنا في جبتي وقفطاني، أنيق مهندم تفوح من منديلي كلما أخرجته من جيبي الجانبي رائحة عطر العروس وأشير بعصاي الأبنوس ذات الحلية المعدنية إلى معالم المدينة شارحا لزوجتي كل شيء نمر عليه، ثم أضحك في اعتزاز العلماء بين فترة وفترة كلما رأيت فكها مرخيا من العجب وعينيها زائغتين في الدنيا الجديدة الواسعة التي انفتحت أمامها فجأة.

أما هذه القروية التي ستقيم معي في العاصمة فقد كان كل شيء فيها يرشحها لمستقبل معقول، كل عضو من أعضائها وقسمة من قسمات وجهها سيحلو عندما تلمسه أنامل المدينة. بعد قليل سيصلح مشيها فتتأود بليونه يمينا ويسارا، بدل ما تتفزز من أعلى إلى أسفل كما تتفزز السيارة على الطريق الريفي.

واستطاعت الخياطة أم حنفي التي تسكن في آخر العطفة أن تلبسها ثيابا تعاون الطبيعة على إظهار محاسن جسمها. ولم تعد اللهجة المدنية ثقيلة على لسانها كما كانت. والكعب العالي الذي بدأ لها شاهقا أول ما خطت به في الشقة أضحى اليوم شيئا عاديا تمشي به كأنها تدوس وهي حافية.

وبعد عام واحد من إقامتنا في المدينة كانت كل أمورنا قد أتسقت تقريبا، وحلت في فمي تلك اللقمة  الفلاحي التي انتقتها لي أمي بعين الحب والمصلحة.

وحين كان ابن خالي في زيارتنا تحدثنا عن الزواج، عن زواجه هو. وهو من مواليد العام الذي ولدت فيه والقرية التي نشأت فيها. غير أنه كان موظفا في وزارة الصحة قبل تعييني بكثير. كثير الطموح والغرور معا. يتحدث دائما عن نفسه وهو في زيارتنا وعن أعبائه الوظيفية وعن ضخامة المسئولية وما يقوم به من مهمات بشكل جعلني أنا وزوجتي نتعجب كيف أن الأوبئة لا تفتك بالناس في الأسابيع الثلاثة التي يأخذها ابن خالي أجازة في صيف كل سنة!

وقال ابن خالي ليلتئذ: إنه سيتزوج، فقلتله: كذاب. فأقسم إنه صادق، فأقسمت له إنه كاذب.

وضحكت إمراتي في " عبها". ضحكت وهي مطرقة. وظهرت في ضحكتها رنة جديدة نقلتها عن إحدى الجارات.

أما الذي جعلنا نشك في أن ابن خالي سيتزوج فهو أنه خطب كثيرات وأعجبه من هؤلاء الكثيرات واحدة ثم أنصرف عنها بعد ذلك. وكن جميعا من المدينة لأنه لا يريد أن يتزوج من القرية.

قالت زوجتي تناقشني. رأي ابن خالي بعد إنصرافه: ولماذا يصر على أن يتزوج من المدينة؟

فقلت لها: إنه يريد لونا جديدا من النساء. من المتحضرات الرشيقات اللائي يصبغن شفاههن بالأحمر!

فقطبت القروية وجهها وزمت شفتيها كأنها تخاف أن يمسهما قلم " الروج" أما أنا فكنت أنظر إليها بعينين لا تطرفان وأتخيل وجهها في شكل جديد. لو لمسته المدنية في أماكن جديدة فماذا يكون طعمه؟!

ثم همست: " لا بأس، ولكن... هناك شيء آخر. هناك الطابع الأصيل الذي تركته القرية على وجه إمراتي.. نقطتان من الوشم إحدهما عند سفح الأنف والأخرى في وسط الذقن كانت تبدو كأنها " نونة"

وعاد ابن خالي إلى زيارتنا في الأسبوع التالي وكان رباط عنقه أحمر فاقعا ينادي بالفرحة وقميصه أبيض منشى الياقة وزر طربوشه يلمس حافة أذنه من فوق. وأعلن وهو واضع رجلا على رجل ومتكيء على مسند الكنبة إنه اتفق... نهائيا!

بنت ناس طيبين، كان جدها أحد البكوات وإن كان يحمل لقب أفندي فقط.

وقال ابن خالي وهو يضحك: والمهم يا شيخ حافظ إن العروس جاءت مطابقة لشروط تماما. هل تذكر الاشتراطات الضخمة التي تحدثت بها إليك فأتهمتني بأنني أعيش في المريخ؟! ها. ها. ها. اقسم إنها تحققت!

ثم استطرد: دخلت علينا يوم خطبتها تحمل أكوبا من الشربات فتناولت إحدهما وأنا أنظر إليها. كانت منحنية في طراوة مسبلة العينين، تنظر إلى الصينية، ولما استدارت لتجلس في المكان المواجه كنت أنا قد فرغت من شرب شرباتي!

وسكت ابن خالي لحظة كأنما ثقلت عليه ذكرى معينة ثم قال وهو يفتل شاربا رباه فأحسن تربيته: وما هي إلا خمس دقائق حتى..... كنت سكران تماما!

 ورأيته يضحك فشاركته ضحكه، أما زوجتي فقد فتحت فمها مستغربة كيف تقدم الخمر للخطاب؟ فعدنا نضحك مرة أخرى

ومضت الأيام...

ووقفت أنا وزوجتي أمام الصوان ذي المرايا ليلبس كل منا أحسن ما عنده. وكانت تقطع على عملي لتسألني عما عسى أن يكون قد اتلف هندامها: " هل ذيل القميص ظاهر من أسفل الفستان يا شيخ حافظ؟ "

فأجيبها: " لا. كده عال"

وأعود فأسأل: " أنظري يا زينب.. إن خطوط هذا القفطان قد تأكلت من حك الحزام في هذه الناحية. هل أغيره؟ لكنه أكثر ملائمة للجبة الجديدة. وسأحاول وأنا أجلس ألا أظهر هذه المنطقة"

فتقول:  "كده عال" !

ودخلنا بيت العروس وفتح لنا الباب خادم صغير ابتسمت حين وقعت عيناي على وجهه لأن كان ريفيا يحمل الطابع الذي تحمله زوجتي... نفس النقطتين من الوشم، عند سفح الأنف وأسفل الذقن. وحملقت فيه زوجتي وكأن بينهما صلة قرابة خصوصا عندما دخلنا إلى حجرة الصالون فأحست فيها القروية بغربة شديدة

كان كل شيء حضريا صرفا من أحدث طراز. ووقفت عيوننا عند حبال الستاير. فهتفت وأنا أكبس العمامة فوق رأسي: " باسم الله ما شاء الله"

أما هي فقد كانت تصلي على النبي في همس ودخل ابن خالي مزهوا مجلوا في ثياب الفرح ومن ورائه العروس في روب من الحرير كان- في الحق- شغلنا الشاغل طول مدة الزيارة. كان أزرق طويلا له كمان واسعان شغل به خاطرنا كثيرا. تلمس أذياله شبشبا في لونه- جميلا طويل الكعب. ولم يكن المجلس متعادلا ولا حتى تتقارب القوى فيه فكان ابن خالي يثرثر في زهو وكانت زوجته تنظر إلى زوجتي بعينين جريئتين مكحولتين بعجب ربكتا زينب فجعلت تنظر باستمرار إلى ذيل القميص الذي طل من الفستان من الأمام بشكل ظاهر. وأحسست أنا بإنقباض شديد خصوصا حين رأيت عيني إمراتي تستنجدان بي،فقررت أن أقوم.

وفي الطريق كانت ساخطة على كل شيء. على المدنية وأساليبها خصوصا فيما ترسله إلينا من أفانين الزينة.

ولم أرد على شيء لأنني عجبت من ثورتها النادرة. وكنت استمع إلى وقع عصاي وهي تلمس أرض الشارع، وفرقعة سياط سائقي العربات وأنل لا أزال أحس انقباضا. حتى إذا ما ضمنا مخدعنا في الليل رأيت إمراتي تنظر في المرآة وتحملق في وجهها وتسمح بأناملها بعنف على نقطتين. وكانت كأنها تحاول أن تمحو " بقعا" في صمت وإلحاح وكدر. وكنت مستلقيا أنظر وأنا ساكت حتى رقدت هي الأخرى في سكون.

 ورجعت من المدرسة ظهر أحد الأيام ففتحت لي الباب وهي تضحك.؟ وكانت ضحكة من يحاول أن يهون عملا ما حين يشك في رضا الناس عنه. ولما فحصت كل ما حولي لارى ماذا طرأ رأيتها قد وضعت على شفتيها شيئا خفيفا وعلى وجهها شيئا طفيفا مما تتزين به المدنيات. فتألمت لها وغضبت منها في وقت واحد وأحسست بالخيبة الكبرى التي تصيب كل من يريد أن يقاوم الطبيعة في شيء فرضته عليه فعرفت أن الاستسلام لبعض العيوب التي لا سبيل إلى التغلب عليها أخف بكثير من الحرب الخاسرة التي نعلنها فيضحك منها الناس.

فقلت لها وهي تخرج لي اللحم من السبانخ: " أحذري أن تعودي لمثلها مرة أخرى يا زينب... لست محتاجة إلى هذه الزينة فضلا عن إن هناك تناقضا كبيرا في استعمالها بالنسبة إليك أنت! "

فأجابت بإنكسار: " بسبب الوشم؟ أليس كذلك؟ إن إحدى جاراتي في البيت هي التي أغرتني.. وجعلتني أجرب! معلهش"

فأجبت بعد أن بلعت اللقمة: " معلهش" !

وزرنا ابن خالي بعد ذلك مرة واحدة أنا وهي ثم أنقطعت هي عن الزيارة نهائيا وبقيت علاقتنا فردية صرفه. كان يأتي إلى بيتنا وحده وأذهب إلى ببيته وحدي. وقللت زينب من مقابلاتها له كأنما نقمت عليه راحتها المفقودة.

ثم سافرنا إلى القرية في فرصة من الفرص. وتعللت زينب هناك بعد وصولنا بتعلات كثيرة للبقاء أبسطها كفيل بأن يبرر بقاءها بضعة أيام. أخوها سيتزوج، وأمها مشتاقة إلى أن تؤانسها!

ووافقت بعد جهد وتركتها وسافرت. وكنت متعودا حياة الوحدة بارعا في قضاء شئوني بنفسي حتى مضى عشرون يوما فبعثت استدعيها

ووصلت بالسلامة فكانت ليلة! ليلة سوداء كنت فيها أشد غضبا وألما- لها، ومنها- من اليوم الذي رأيتها فيه قد صبغت وجهها بالأحمر وكانت ترجوني في خوف وإنكسار ألا أرفع صوتي حتى لا يسمع الجيران، لأنها فضيحة

ولما سألتها عن الذي أشار عليها بما صنعت

قالت: إنها أمها. فزاد غضبي من استبداد الأمهات ببعض مالا يخصهن. فعادت زينب تؤكد لي أن حظها هو الذي خانها وأن ناسا كثيرين ساعدهم الحظ وأن أمها كانت تقصد المصلحة، فألقت على ناري حطبا حتى أرتفع اللهب.

وبت أنفخ طول الليل في ظلام الحجرة وأنا أسمع تنهدها وشهيقها لأنها لم تنم. وفي الصباح نهضت من الفراش فغلت الحلبة وسخنت الفطير لكنني لم أجد شهية للأكل فنزلت صامتا وتركتها تبكي.

وسألت بعض الأطباء عما تؤول إليه مثل هذه الحال، فقال إنها كالجرح تشفى ولكن لابد أن تترك أثرا..

وقالت لي زوجتي وقت الظهر: إن الإعرابية التي أغرتها بإزالة الوشم من وجهها نجحت قبل ذلك وأن أمها رأت هذا النجاح وإنه لا يجب أن نيأس! فتنهدت! 

وكان شطر الضحك في المأساة أكبر بكثير من شطر الدموع فطردتها إلى القرية مدة أخرى ولم أرد على الرسائل التي كانت تجيء من أهلها حتى كان أحد الأيام فأحسست أن قلبي يرق خصوصا عندما كنت استمع إلى التلاميذ في الفصل وهم يقرأون حكاية الغراب والعصفور في كتاب المطالعة: "كان الغراب يمشي مشية غير عرجاء لكنه قلد العصفور فنسى المشية القديمة ولم ينجح في المشية الجديدة"

وكنت ابتسم لحظة ولحظة وأنا أمسح شاربي واستمع إلى صراخ أحد التلاميذ وهو يحاول أن يمثل المعنى، وصورة زوجتي بوشمها الممسوح تتراقص أمامي على الحائط الذي يحمل خريطة وادي النيل.

وطرق باب المسكن وأنا نائم والساعة قد جاوزت العاشرة مساء فقمت وعليت نور المصباح المعلق على حائط الصالة وفتحت الباب فإذا بإمراتي ووراءها حمال!

ورق قلبي لأنها كانت وحدها. كانت الخطة بارعة أثرت في أحساسي، لو أن احدا من أهلها جاء معها لجاز أن يتغير الموقف.

وجلسنا نتكلم وكان المصباح بيننا على منضدة صغيرة، وكنت أحملق في وجهها الذي برئ من العملية فرأيت بقعتين تلمعان من أثر الكي كانتا قدر رأس المسمار.

وأحست بنظرتي فسألت من عينيها دمعتان كبيرتان عبرت إحداهما الخد الأيسر بسلام أما الأخرى فقد توقفت في سيرها على الخد الأيمن لأنها تعثرت في شيء...

كان كما تفهم موضع الوشم. وكان وجهها متقلص الملامح!

سألتها مشفقا عليها " لماذا تبكين؟ "

فأجابت وهي تشهق: " إنني... خائفة من أن تتزوج.... إمرأة جديدة" !

فتركتها في صمت ووثبت إلى السرير حيث رقدت وسحبت اللحاف على وجهي!!

أما هي فقد كانت تنقل المصباح إلى الصالة!

 

المصدر: محمد عبد الحليم عبد الله - مجلة حواء
  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 1960 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,262,007

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز