صحوت من نومى مبكراً لا شىء حولي غير الصمت. الوحشة تسكن كل أرجاء بيتى صعب على الإنسان أن يعيش الاغتراب وهو في وطنه، محاط بعدد كبير من الأقارب وعدد لابأس به من الأصدقاء!
ورغم ذلك لا أجد بداخلى إلا الخواء، وحولى ذلك الصمت الذى يضاعف من ثقل الخواء بداخلى.. خواء يتكاثف كما يتكاثف الجليد فيصيبنى بتلك البرودة التى تحط فى شرايينى وتدفعنى إلى أن أقوم وأدور حول نفسى.. ثم أعود لأحط على طرف سريرى . لكن كان لابد من أن أقوم..
قمت ووقفت أمام مرآتى استرجع أيام العمر لأجده فيها، لم يزل هناك. ماذا يفعل ذلك الشخص الذى كان..
فتحت دولابى أستخرج منه ملابسى، أعدها. أنظفها لكى تكون جاهرة للإرتداء فالشتاء على الأبواب. المقدمات وصلت فى شكل رخات خجلة.
أخرجت الملابس البيضاء. جيب قصير وجاكيت أبيض وبيلوز بالأسود. ذلك كان يتفق ومزاجه..
ياه .. مازلت أتذكر أول مرة خرجت فيها معه. كنت أرتدى تلك الملابس.
صحبنى من الكازينو إلى الخارج. وكانت سيارتى هناك. فتح لى بابها بعيداً عن المقود فاتجهت إلى الباب الآخر. إذا أنه يقود السيارة بنفس الجنون الذى فى آرائه وذلك كان يرعبنى أيضاً.
قال لى وهو بجانبى: يا أميرتى، خلت أن الناس ينظرون إلى. يحسدوننى على مابين يدى من سعادة وأنا معك، ماذا لو ذهبنا إلى بيتى؟!.
لكنى أقنعته بأن نذهب إلى المطعم الذى تعشينا به فى المرة السابقة وأدعيت بأننى أشعر بالجوع، وكنت أكذب فالحب يجعلنى أشعر بالشبع الدائم.
ها هو فستانى الأسود. فستان سواريه قصير مفتوح الصدر. أضع فوقه شالاً. أرتديته له فى عيد ميلاده، ولى معه صورة التقطها المصور فى غفلة فكانت طبيعية كبرتها وبروزتها وجعلتها على الكومدينو المجاور للسرير حتى إذا صحوت من النوم شاهدته.
لم تعد الصورة مكانها.
يومها قال لى كم أتمنى الآن أن أمتلك طائرة «هو الذى لا يملك سيارة» - كان على لسانى أن أقول له «أحلامك كبيرة كأحلامك السياسية. أحلامك تعبر المعتاد لتصل إلى المستحيل.
هو الذى يدعى بأنه لا يتذكر عيد ميلاده. وأنا أول من أهتم بذلك اليوم الذى يتناساه..
كان يحلم بالطائرة حتى لاتشاهدنى عيون غير عيونه، كلماته كانت تشجعنى دائماً على الطيران.
وجدت قلبى يخفق من الفرحة، وكانت لى أحلامى. تنصب على صورة معينة. صورة لى وأنا بملابس بيضاء وهو بجانبى. أخرجت علبة بها هديتى له. ساعة سويسرية غالية.
فأخرج من جيبه علبة صغيرة بها خاتم ذهب به فص أحمر. وأعتنى بى عناية خاصة أثناء العشاء، كان يطعمنى من طبقه، وأنا أطعمه من طبقى، ورغبت فى أن أرقص معه. نبهنى بأنه لايجيد الرقص.
قلت له:
«ليتك تجيد الرقص كما تجيد الكلام فى «السياسة».
وفى مناسبة أخرى. أرتديت له فستانى الأرجوانى، يومها أهدانى سلسلة ذهبية رقيقة تنتهى بمربع مكتوب عليه «ماشاء الله» سرنى ذلك منه كثيرا. ففى ظنى أن أمثاله وهمومهم اجتماعية بحتة فى حاجة إلى مساندة من «الله» حتى يتحقق لهم المستحيل الذى ينادون به.
وتكررت المناسبات وتكرر ارتدائى الملابس، يبدى إعجابه بها فأضيف عليها لمسة جمالية وأرتديها مرة أخرى.
وفى كل مرة.
أظن بأنى أقترب من الصورة التى فى ذهنى، صورتى وأنا بذلك الثوب الأبيض الفضفاض الذى تتمناه كل امرأة لتبدأ حياة جديدة مستقرة.
ارتديت الجيب السوداء مع الجاكيت الهافان. وقال قولته المكررة. «أن ملابسى الجميلةهى جميلة لأنى ارتديتها».
وصحبنى إلى محل الصائغ ليشترى لى خاتم الخطوبة، كان قلبى يرتجف من السعادة، ها أنا أقترب من تحقيق حلمى. السعادة بداخلى. خيّل لى أنها تكفى العالم.
ولكن إذا ما تأملتها وجدتها موشاة بالحزن.
خاتم الخطوبة ظل فى جيبه، وراح يحدثنى عن مشاريعه التى يزمع تحقيقها، وتلك العقبة التى تقف فى طريقه. فهناك قطعة أرض تساوى نصف مليون جنيه، يتعذر عليه بيعها. فى الوقت الحالى، ويرغب أن أقرضه «مائتى ألف جنيه»!
وفى رحلتنا معاً على «شط النخيل». قضينا يوما رائعاً، ولكنه كان ينفرد بى ويسألنى:
«ماذا عن ردى الإيجابى»
لم أكن قد حددت ذلك الرد. هذا المبلغ يمثل كل ما أتساند عليه فى معيشتى بجانب أجر الوظيفة الذى لايسد كامل احتياجاتى اليومية.
وحالة الحب كانت فى صالحه.
أرجأت الرد إلى وقت آخر..
كان لابد أن أفيق من أحلامى واستقصى عنه.. وما وصلنى.. كان بالنسبة لى صدمة؛ فقد كرر ذلك مع أرملة ثرية.. وهى لم تزل تطارده بأحكام قضائية.
كان فستانى الأخير. هو الفستان الأصفر. يومها تعطلت السيارة فى الطريق وتركتها وركبنا تاكسيا. فتركنى أدفع أجرة السائق. واتهمنى بأننى أعطل له صفقة رائجة بكل المقاييس.
هل كان فستانى الأصفر آخر الفساتين التى خرجت بها معه .. ربما.
فقد انشغلت بتلك المشادة التى وقعت بيننا. جعلت كلماته تأتى إلى من واد سحيق.
تناثرت ملابسى على السرير. وضلف الدولاب مفتوحة كالكهف البدائى. قررت أن ألملم أحزانى وأكفنها بتلك الملابس التى إعجبته. هل أحمد الله أن الحقيقة وصلتنى قبل أن أتورط؟
وأنا أعيد ترتيب ملابسى، أنظر إليها فأجدها كلها أصبحت قديمة. تحتاج إلى تعديلات طبقاً للموضة التى تتغير كثيراً.
المرآة صريحة. تظهر تلك الشعرة البيضاء التى تتسلل إلى شعرى الأسود الغزير، وحالة الشك تكتنفنى. «لعلهم أعداءه الذين يطاردونه ولا يفسحون له فرصة للحب الحقيقى»..
نزعت نفسى من حالة التردى التى أشعر بها ورأيت أن الأصباغ قد تكون الأفضل لشعرى لتخصم من عمرى تلك الأيام التى تهلهلت معه .. ورأيت أيامى معه. مشحونة فى تلك الملابس التى ما عدت أطيقها..
تلك البقايا المهلهلة التى يجب أن أتخلص منها .. لأبدأ من جديد..
ساحة النقاش