اندفعت ميساء نحو نافذة المنزل على إثر صوت نواح قد ضج مضجعها وأفزعها من النوم، فإذا بالصوت ينطلق من منزل صديقتها هبة .. اتجهت ميساء إلى والدتها تسألها فى اضطراب ، ما الذى حدث يا أمى ؟ أخبرينى بالله عليك !

لم تستطع أن تجيب الأم، فقد سيطر عليها الوجوم الذى أعجزها عن الكلام ..اندفعت ميساء عارية الرأس حافية القدمين إلى منزل صديقتها هبة، ولم تستغرق زمنا فى الطرق على الأبواب ، بقدر ما استنفذت قواها للوصول إلى عقر الدار من كثرة تجمع أهل البلدة وازدحامهم أمام البيت .

أفسح الواقفون أمام الدار الطريق لها فراحت تبحث عن والدة صديقتها فإذا بها جالسة على الأرض، وقد تعانقت أصابع كفيها فوق رأسها وراحت تتحرك بحركة مكوكية غير منتظمة الحركة تردد فى بكاء وعويل .. آه يا ابنتى .. آه يا ابنتى .

جالت ميساء بعينيها نحو الموجودين ، وما إن وقعت عيناها على امرأة قد رق حالها من الألم وأرهقها كثرة البكاء ، وسألتها ما الذى جرى لهبة ، بربك اخبرينى يا خالتى .

أجابت بصوت متقطع النبرات .. ذهبت للسماء .

- ماذا تقصدين ! .

استشهدت

- كيف ؟!

أبدا .. نفذت عملية استشهادية عصر اليوم

- ليس هذا معقولا ، لقد كانت معى بالأمس ولم تشر بأى تصرف يدل على ذلك ، اخبرينى بربك كيف علمتم ذلك!؟

- لقد اتصل بنا أحد أبطال المنظمة أكد لنا ما حدث

ذهلت ميساء ولم تتمالك نفسها فهوت على الأرض بجوار والدة الشهيدة وراحت تكرر السؤال من شدة الذهول .. هل صحيح ماحدث يا خالتى .. لم تجب الأم ، واستمرت علي حالها.

وفى غمرة الأسى وصيحات النواح ، وصل الأب ودون أن يسأله أحد .. قال فى مرارة ، لقد تأكد الخبر ، سألت عنها شقيقاتها المتزوجات ، فلم يجبنى على سؤالى أحد ، وبحثت عنها فى كل مكان فلم اعثر لها على أثر، ورفعت صوتى لها بالنداء، فلم أجد لصوتى صدى .. وأخيرا أخبرتنى الجهات الأمنية بتفاصيل العملية التى نفذتها هبة، فقد نفذت عملية استشهادية حيث فجرت نفسها عصر اليوم على المدخل الشرقى لمجمع همعيكم التجارى فى مدينة العفولة شمال جنين .

جلست ميساء وهزت رأسها احساسا بالمرارة وقالت بصوت شجى .. الآن قد تفسرت الرؤية قد رأتها هبة منذ أسبوع .

اتجه الوالد بسرعة إلى ميساء وطلب منها أن تقص عليه الرؤية التى قد رأتها ابنته قبل أن تستشهد .

فأجابته ميساء .. لقد أخبرتنى هبة إنها رأت نفسها عروسا قد استعدت للزفاف ، وعندما جاء العريس اصطحبها معه وغاب بها بعيدا فى مكان لا يعرفه إلا هو ولم يسمح لأحد من أهلها أن يصطحبها إلى هذا المكان، فرحت أسألها .. هل تعرفين هذا الرجل ؟ أجابت بالنفى، فلم أشأ أن أفسر لها الرؤية ، وعقبت على حديثها بقولى ... اللهم اجعله خيرا لا تشغلى بالك يا صديقتى ، إنها أضغاث أحلام .

صمت الأب برهة لقد رأيت فى منامى أنا أيضا ما يفسر ماحدث لكن فكرى لم يتوقعه ، لما علمت من أمر الوداعة والسكينة التى تتصف بها ابنتى ، ولم أكن أتخيل أن نفس ابنتى قد انطوت على جذوة من لهب الكره للانتقام من الأعداء ، ولم أكد أدرى أن ابنتى تخفى وراء شفتها الضعيفتين بارودة تنتظر أن تنفجر بكلام السخط والاعتراض ، ولم أدر أن وراء عينيها الزائغتين ترقد نظرات الترصد كى تنتقم لأخيها بكر الذى اعتقله الأعداء وهو يخطط للقيام بعملية استشهادية قصد من وراءها أن ينتقم لأصدقائه من شهداء انتفاضة الأقصى ، حيث رأى بعينه أشلاء أجساد الفدائيتين تتناثر فى كل مكان ، ولم يكتف الصهاينة الأنجاس بما فعلوه ، بل راحوا يطئونها دون اكتراث ، وزاد فى همه أن الأعداء قد أشعلوا النار فى دار صديق طفولته عمار بعد أن قتلوا والده، أمام أولاده، ثم ساقوا عمار أسيرا ، بعد أن أوجعوه ضربا بظهر البندقية أمام أمه المريضة، ولم يرقوا لحالها رغم عبارات الاستجداء التى توسلت بها اليهم .

قالت أم بكر وهى تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها، ماذا رأيت يا أبو عمار ؟

- لقد رأيت طائرا اخضر يطير فى السماء وقد حفته طيور كثيرة قد ملأت ما بين السماء والأرض ثم هبط على سطح دارنا .. فقاطعته زوجته، ثم نادى على هبة، فخرجت مسرعة لتلبى النداء، فلما اقتربت منه ، ابتلعها وطار بها فى السماء .

تعجب الرجل من حديث زوجته ونظر اليها بإمعان ! .. كأنك كنت معى ياأم بكر ..

- لقد رأيت نفس الرؤية يا أبو بكر ، لكننى لم أدر لها تفسير

قالت ميساء فى هدوء المطمئنين ، ابشرى ياخالتى، لقد لحقت هبة من سبقوها من الشهداء فى الجنة، لقدسمعت من أحد الأتقياء المقربين لله أن أرواح الشهداء فى جوف طيور خضر تسرح فى الجنة حيث شاءت .

 

وفى اليوم التالى داهم الجنود الإسرائيليون منزل الشهيدة وهجموا على أسرتها باسلوب غير متوقع لأهل الأسرة المنكوبة ، وأسرع أحد الجنود وأمسك بتلابيب الأب المريض وصاح به ، طبعا أنت «عازم أبو خضير دراغمة» ، ولم يتمكن الرجل من الإجابة لشدة الفزع الذى أحل به، فاقتربت زوجته وحاولت أن تنزع الرجل من بين يدى الجندى وصاحت به ، اتركه أيها الوغد إنه رجل مريض، فما كان من الجندى الإسرائيلى إلا أن دفعها بشدة فارتمت على المقعد الجانبى ببهو المنزل ، فتصايح أبناؤها الصغار فى فزع وخوف، أمى .. أمى .. فما كان من قساة القلوب إلا أن لطموهم وأوجعوهم ضربا بالأكف والأيدى فما كان من الصغار إلا أن ارتعدوا فتقوقعوا هلعاً فى الركن البعيد من المنزل ، وأخذوا يخفون أصواتهم فانحبست الحروف وراء الشفاه الضعيفة وانهمرت الدموع من أعينهم ورغم شدة الموقف وهوله ، اقتحم الجنود الحجرة الخاصة بالشهيدة، وتجرأ أحدهم وفتح حقيبة يدها واخرج بطاقتها الشخصية وبدأ يقرأ فى سخرية ، هبة عزم أبو خضير دراغمة ، طالبة بالمستوى الأول قسم اللغة الإنجليزية جامعة القدس المفتوحة .

صاحب الأم ، أيها الوغد اترك كل ما يخص ابنتى ،

أجاب الجندى بسخرية ، ماذا تقولين ؟ اترك كل شىء يخص ابنتك ! يا للعجب ! وأين هى ابنتك ؟

صمتت الأم ولم ترد جوابا على أسئلة الجندى فصاح بها آخر بعد أن لطمها على وجهها ، ألم تعلمى يا امرأة أن ابنتك قد دبرت أمر الانتقام من المواطنين الاسرائيليين ، فخططت لعملية استشهادية لتنفذ رغبتها الانتقامية دون رحمة أو شفقة بالمواطنين الأبرياء .

ردت الأم فى سخرية .. المواطنين الأبرياء .

- أجل الأبرياء ، لقد قامت ابنتك بتفجير نفسها عند المدخل الشرقى لمجمع همعيكم التجارى فى مدينة العفولة وأسفرت عن مقتل ثلاثة من الجنود وجرح سبعين بينهم ثلاثة عشر فى حالة خطرة .

أجاب الأب رغم احتباس صوته وقلة حيلته ، نعم نعلم ذلك .

اتجه الجندى إلى الرجل، أريد أن اعرف ، من الذى دبر العملية وخطط تنفيذها لابنتك؟

- لا أعتقد أن خبرا مثل ذلك يمكن أن يخفى عليكم!

لا تراوغنى فى الحديث، أجب وإلا وضعت رقبتك بين كفى ومنعت عنك أنفاسك للأبد.

خرج جندى آخر من حجرة هبة بعد أن نبش أوراقها وحمل بعض قصاصات من الورق وناول بعضها لزميله الذى كان مشغولا بالضغط على والد رقبة الشهيدة، ورجاه بإصرار أن ينظر ما بها ، تناول الجندى الورقة، وزاغت عيناه من أمر ما وجد بها ، وصاح بالرجل من الذى أتى بهذه الرسالة هنا ؟

رد الأب .. رسالة ! أى رسالة تقصد ؟

مد الجندى الاسرائيلى يده بالورقة للرجل ، وقال فى تحفز .. هذه ...!

نظر الرجل إلى الورقة وقال : هذه ليست رسالة، إنما هى جزء من خطبة قد كتبها بكر لزملائه المجاهدين قبل أن توقعوا به وتعتقلوه .

تناول الجندى الورقة وبدأ يقرأ : إن أعداءكم قتلوا أولادكم واستحلوا نساءكم، وساقوا شيوخكم الى حفائر الموت فماذا تنتظرون احملوا عليهم حملة صادقة، واقتلوهم حيث ثقف ثقف .. لم يستطع الجندى أن يقرأ ، لقد ثقلت على لسانه الحروف ، فأكمل الرجل «اقتلوهم حيث ثقفتموهم واطلبوهم بكل سبيل، تحت كل أرض وفوق كل سماء لا تدعوهم ينتهكون حرمة أرضكم ودياركم ويطئون مساجدكم ومعابدكم بأحذيتهم، احملوا عليهم حملة قوية تمزقون بها شملهم وتضجون مضاجعهم وتحرمون عيونهم الراحة والنوم .

حملق الجندى الاسرائيلى فى الرجل وصاح به ، ألهذا الحد يارجل تحفظ هذه الكلمات التى شحذ بها ابنك نفوس المتمردين من زملائه الارهابيين ضدنا !؟

بلى أحفظها .

لماذا أيها المستفز ؟

- لأننى أنا الذى كتبتها.

عاود الجندى لطم الأب الملكوم ، وصاح به مرة أخري، أى نوع من الرجال أنت .. أسرنا ابنك وأودعناه أحلك السجون ، ووطئت أرجل جنودنا، أشلاء جسد ابنتك التى تناثرت ولم تضعف ولم ينحن لك ظهر .. أى نوع من الرجال أنت ؟!

- أنا رجل عربى أبى لا يقبل الضيم ولايفرط فى شرف.

وماذا أيضا ؟

نحن قوم نطلب الموت، وانتم تطلبون الحياة، نحن قوم نطلب الشرف ، وأنتم تطلبون القوت ، نحن قوم نطلب جنة عرضها السماوات والأرض، وأنتم تطلبون غنيمة تملؤن بها فراغ بطونكم .

ماكان الجندى الاسرائيلى هذا الكلام إلا وضرب الأرض بقدميه غيظا وكمدا وصاح بجنوده أن يسحبوه وبقية أفراد أسرته إلى سجون إسرائيل .

ساق الجنود الأب المكلوم إلى سجن المضطهدين من الرجال، وأودعوه مكانا مظلما وعزلوه عن غيره من السجناء ومنعوا عنه الدواء وأهملوا علاجه، فضعفت صحته وازدادت سوء بعد سوء ومرت أيام طويلة بالرجل وهو على هذا الحال، وزادت قسوة الأيام عليه كونه لا يعلم عن أسرته شيئا .

لقد تجرع الرجل كأس المرار ألوانا من شدة العذاب الذى أنزله به الجنود الاسرائيليون، ورغم صبر الرجل ومثابرته إلا أن المرض قل فل عزيمته وأضعفها فلم يعد قادرا على احتمال ما حل به من الآم فتمنى الموت ربما يرحمه مما هو فيه .

راح عازر يحفر على الحائط ليكتب بأظافره، آه من العيش ما أطوله وآه من الموت ما أثقله - استبطأ الأجل واستطالت أيامى ، إنى لم أصبح حيا فأرجى ولا ميتا فأنسى .

وراحت عيناه تزرف دمعة، وراح وجهه يسخر بابتسامة ، أما الدمعة لأنه بكى على نفسه، أما الابتسامة فلأنه رأى الطيور الخضر تناديه، فراح يستودع أسرته الله ورسوله وناجى خالقه.

اللهم لا راد لقضائك ولا اعتراض على بلائك ، أمرت فأطعنا وابتليت فرضينا فامنحنا غيث احسانك وأذقنا برد رحمتك ، وألهمنا جميل صبرك، لا حول ولا قوة إلا بك لا ملجأ منك إلا إليك. 

 

المصدر: درية توكل - مجلة حواء
  • Currently 88/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
29 تصويتات / 978 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,697,892

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز