ذهبنا مساء السبت الماضى لاقوم بزيارة فى مجلس الامة، راجية أن يطرح موضوع تعديل التشريعات الخاصة بالاحوال الشخصية للمناقشة،و ينتهى الامر فيه الى قرار جرئ يزيدنا ثقة بنوابا المخلصين،و يكفل لبلادنا حاجتها من الاصلاح الصحيح...
و لكن الموضوع لم ينظر...
فبعد دقائق من بداية الجلسة تقدم عشرون نائبا – بينهم سيدتان – الى رئيس المجلس يطلبون تأجيل المناقشة الى ما بعد عطلة عيد الفطر، حتى يتسنى هم فى هذه الفترة أن يستكملوا معلوماتهم فى مجال الاحصاء،و يستنيروا برأى الاخصائيين من رجال الاقتصاد و الاجتماع و الدين.
و الظاهر أن بقية النواب كانوا يتحرقون شوقا الى القيام بعطلة الصيام، بدليل تأييدهم الواضح لهذا الاقتراح..
إن قضية الأسرة ليست قضية المرأة،و إنما هى قضية الوطن كله...
و بناء عليه تأجيل الموضوع، فشعرت بالضيق الشديد... و لكنى لم ألبث هدأت حين تذكرت قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم).....
مشروع رجعى
فربما يكون القدر قد أراد أن يفسح للجهات الرسمية فرصة أوسع لدراسة المشروع المقدم من اللجنة، مما قد يؤدى الى علاج نواحى الضعف الكثيرة فيه قبل عرضه على مجلس الامة... فالذى أعرفه عن بقين، أن أولياء أمورنا تقدميون بمعنى الكلمة، ولا يمكن أن يرضوا بغير الاصلاح الحقيقى.. و الذى أعرفه أيضا، أن مشروع اللجنة رجعى فى جوهره و تفاصيله،و بالرغم من أنه وضع فى اطار براق قد يخدع حسنى النية من غير المختصين، غير أنه جاء مجردا من كل جديد.. سوى الغاء التنفيذ الجبرى لاحكام الطاعة، هذا الاجراء المخالف لروح الدين، و الذى لا يوجد له مثيل فى أى بلد اسلامى آخر،و كانت المصلحة العامة تقضى منذ زمن طويل بالغاء هذه البدعة الدخيلة،و لكنها لم تلغ،و بقيت رابضة على قلب المجتمع، يزعم أن المساس بها يعرض الدين للخطر.. ثم ظهر خطأ هذا الزعم عندما قررت اللجنة الغاء التنفيذ الجبرى لبيت الطاعة،و استندت فى خطوتها هذه الى فتاوى تؤيد شرعية الإلغاء الذى كانوا يقولون أنه حرام قبلها بوقت قصير...
و المعنى الواضح من ذلك أن أساليب ممارسة التعاليم التشريعية قابلة للتطور مع مقتضيات و مطالب كل زمان و مكان،و لدينا التفسيرات المتحضرة تحبس عن الرأى العسام لغرض من الاغراض،و تظل حبيسة الى أن تقضى الضرورة أن يلقم أنصار الاصلاح بواحدة منها تشغلهم عن المطالب الاهم....
و فى تصورى أن أولياء أمورنا أكثر اخلاصا لبلادهم من أن يرضوا بأرباع الحلول.. ولا أقول أنصافها.. فحكما بالتفصيلات التى نشرتها الجرائد من خطاب السيد بدوى حمودة وزير العدل أثناء انعقاد مؤتمر الاسرة الاخير، نجد أن مشروع التعديل بصورته الراهنة لا يحقق ثلث الاصلاح المطلوب لحماية الاسرة فى بلادنا من معاول الاسفاف و الاستهتار التى تدك كيان هذه الخلية الاولى فى جسد الامة، فتضيع عليها فرصة القيام بنصيبها الكبير فى عملية بناء الاجيال الصاعدة...
و على كل حال فأنا لست متشائمة مطلقا من تأجيل عرض مشروع الاحوال الشخصية على مجلس الامة،و لعلى استمد اطمئنانى هذا من ثقتى المطلقة بتقدمية أولياء أمورنا،و تقديرى العظيم لشجاعة نوابنا على تحقيق الاصلاح....
رجاء الى النائبات
انما أحب بهذه المناسبة أن أبدى بعض الملاحظات التى أرجو من التقدميين و التقدميات من أعضاء مجلس الامة أن يتقبلوها بالترحيب...
و لقد ساءنى بصراحة أن ألمس تنافرا فى الاتجاه بين سيدات المجلس ،و قد ظهر ذلك واضحا فى الجلسة التى حضرتها مساء السبت، حين وقفت الاختان كريمة العروسى و نوال عامر تعارضان اقتراح التأجيل،و وقفت الاختان بثينة الطويل و ألفت كامل تؤيدان الاقتراح....
و الذى نفهمه من هذا التعارض، أن نائباتنا لم يجتمعن مما قبل الجلسة أو فى بدايتها، لتنظيم الصف و الاتفاق على رأى واحد قبل خوض هذه المعركة التى نتوقع أن تشحن الرجعية جهودها لكسبها.. مع أن الواجب يحتم ضرورة عقد اجتماعات و اجتماعات و اجتماعات... لا بين السيدات فحسب،و انما بين السيدات و زملائهن المعروفين باتساع الفكر و مناصرة الاصلاح...
فمثل هذه القضايا لا يصح أن يعتمد فيها على جهود فردية، حتى لا يتفتت أثرها و يضيع،و المصلحة العامة تتطلب تجميع الاراء و تقريب وجهات النظر، حتى لو ترتب على ذلك التضحية من جانب دون آخر، فالمواطن الصالح هو الذى يسعى الى تحقيق الخير الوطنى غير عابئ بمجئ هذا الخير على يديه أو على يدى غيره....
و الحياة البرلمانية فى الدنيا كلها تقوم على مبدأ تجميع الرأى..
و أعظم الانتصارات فيها يعد له بالاتصالات الفردية فى الاروقة الخارجية قبل الاجتماعات الرسمية، لان الاقتصار على خطاب أو كلمة، لا يأتى بمفعول المناقشة الطويلة و الاقناع بالحجة و المنطق و الالحاح...
و لقد دعوت فى كلمتى هذه الى ضرورة اجتماع النساء بالرجال و زكرت على ذلك عن قصد، فلست أحب أن يتصور أحد أننى أدعو الى تكتل النساء ضد الرجال، لان التمثيل الصحيح للشعب يجب أن يبرأ من التحزب،و يتطهر من مساوئ التحيز للجنس، كى يحتفظ بالمعنى الكريم المقصود به....
ثم أننى أعتقد بصراحة أننا فى قضية اصلاح تشريعات الاسرة، أحوج الى رأى الرجال منا الى رأى النساء....
و لهذا لجأت فى العهد الاخير الى الاعتماد الكلى تقريبا على أقوال الجنس الاخر فى الندوات و المناقشات....
و أرجو من اخوانى النائبات أن يحذون حذوى و هن مطمئنات... فالتجارب علمتنا أن انفراد النساء بالدعوة الى أى اصلاح، يوهم الرأى العام بأنها مسألة نسائية خالصة، يرجى بها تجريد الرجال من سيادتهم،و من يصبح واجبا عليهم أن يقاوموها لدفاع عن كيانهم..
قضية الوطن كله
و هذه بلا شك غلطة فاحشة فقضية الاسرة ليست لجنس دون جنس أو فريق دون فريق....
انها قضية المجموعة...
و قضية الوطن...
و قضية الحضارة....
و ليس بها تجريد الرجل من حقوقه و سيادته، بل وضع العلاج الحاسم الاماضنا الاجتماعية المتوطنة، و تهيئة أسباب النجاح و الاستقرار لابنائنا الذين ضلوا طريقهم فى متاهات العقد النفسية و قل خيرهم بسبب عبودية حياتهم لتفسيرات متخلفة، وضعها فقهاء العصور الوسطى لتحقيق احتياجات الحياة فى أيامهم،و كان المفروض أن تتغير و تتطور مع تغير الحياة و تطورها،و لكن ذلك لم يحدث مع الاسف الشديد، فبقيت التفسيرات على حالها الى عهدنا هذا، مما حاد بها عن طريق المنطق،و جعلها بمثابة السد العظيم الذى يقطع على الشعب الاسلامى سبيله الى التقدم اللائق بكرامة ديننا الحنيف و أمجاد تاريخنا العظيم القديم...
فالدعوة الى تعديل أساليب ممارسة الحقوق الشرعية ليست دعوة نسائية بحال من الاحوال...
ربما تتضمن بعض الخير للنساء،و لكنها مجرد نتيجة و ليست الاصل فى الأشكال، أنما الاصل هو الصالح الاجتماعى العام الذى يتحتم على المواطنين الصالحين أن يتصدوا للدفاع عنه بقدر ما يتحتم على المواطنات الصالحات أن يعملن على تحقيقه.
و اشتراك الرجال فى هذا الجهد أوقع، لاننا نعيش فى مجتمع مازال يقطع أولى خطواته فى طريق التقدم،و قد اعتاد منذ الازل بتأثير الجمود الفكرى الذى فرض عليه دون أن تكون له يد فيه، أن يستهين بعقلية المرأة و مكانتها،و يتعالى عن الاشتراك فى أى حركة تكون هى البادئة بالدعوة اليها...
و انا لا أشك فى أن اخواتنا النائبات على بيئة بهذه الحقيقة،و لسن فى احتياج لمن يبصرهن بها، كذلك لا أشك فى أنهن يقمن بجهد مذكور فى تعبئة الرأى العام البرلمانى،و إعداد العدة لقيادة الرجال فى عملية التصدى للدفاع عن حقوق الاسرة...
و مع كل هذا، فأنا أطالب اخواتى النائبات بجهود مضاعفة لأن الموقف يحتاج الى ذلك،و قد لمست الاحتياج اليه بوضوح أثناء جلوسى مع النواب ليلة السبت الماضى.. فكثيرون منهم سألونى عما نريده بالضبط، و بدا واضحا فى حديث معظم من قابلتهم هناك أن نقط الضعف فى مشروع اللجنة لم تكن واضحة فى أذهانهم رغم رغبتهم المخلصة فى خدمة المجتمع بالاجراء الصحيح....
و أظن الفرصة لم تلفت بعد...
فقد تأجلت مناقشة المشروع إلى ما بعد عطلة عيد الفطر، مما يتيح فرصة العمل لتدارك الموقف،و أن كنت فى الواقع استبعد امكان ذلك بسبب تفرق النواب خلال هذه المهلة بين ارجاء الجمهورية....
و ليس المقصود بها تجريد الرجل من حقوقه و سيادته، بل وضع العلاج الحاسم لأمراضنا الاجتماعية
القيادة النسائية
كلمة أخيرة أقولها فى مجال حديثى عن ملاحظاتى فى زيارتى لمجلس الامة..
فقد سمعت أكثر من عضو رشيد يحمل صفوف القيادة النسائية مسئولية التقصير فى الدعوة الى قضايا الاسرة...
و أقول بصراحة فى الرد على هذا الكلام: (أن النساء فى بلادنا مازلن الى اليوم يعشن بلا قيادة، فلقد كان الزمام فيما مضى محصورا فى أقلية ثرية تعمل فى الحقل الاجتماعى بقصد التفاخر أو التسلية أو الدعاية... و ما عدا الحالات القليلة التى كنا نلمس فيها الاخلاص و الايمان بالمبدأ، فإن القيادة النابعة من صميم احتياجات المجموعة لم تظهر بعد بالصورة المطلوبة....
و لقد أختفت الآن الاقلية الثرية التى كانت تعمل للمظاهر...
و بأن النقص الذريع فى القيادة.. لان الجهود التى بذلت فى خدمة النساء لم تخرج مطلقا عن النطاق الفردى...
فمن الملوم؟
لست أدرى،و أن كنت اتمنى لو قام الاتحاد الاشتراكى بعمل سريع لحل هذه المشكلة.....
المصدر: أمينة السعيد - مجلة حواء
نشرت فى 27 نوفمبر 2010
بواسطة hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
22,210,167
الصور المختارة
مقالات مختارة
رئيس مجلس الإدارة:
عمر أحمد سامى
رئيسة التحرير:
سمر الدسوقي
الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز
ساحة النقاش