شنطة رمضان تكافل اجتماعى أم شراء ولاء

 

كتب : محمد الشريف

 ظهرت "شنطة رمضان" منذ سنوات في المساجد والزوايا والجوامع بالمناطق الشعبية ذات الأغلبية الفقيرة، حيث كان بعض المقتدرين يتبرعون لصناديق هذه المساجد، وبحصيلة التبرع يتم شراء بعض المواد التموينية الأساسية مثل السكر والزيت والأرز والشاي وبعض المواد الرمضانية مثل البلح وقمر الدين، وذلك تحقيقا لمبدأ التكافل الاجتماعي الذي نادى به الإسلام وحث عليه، وجعل الشهر الكريم هدية ليقدم خلاله الجميع أفضل ما لديهم، ليلتقط الفكرة بعض رجال الأعمال المقتدرين، وهنا يلجأون لمحلات السوبر ماركت الكبرى، لترى الأحزاب والقوى السياسية والتيارات والجماعات الدينية وبعض مؤسسات الدولة أنها أمام فكرة عبقرية للاستحواذ والسيطرة على قطاعات كبيرة من فقراء المجتمع، وينتشر الأمر من القاهرة والإسكندرية والجيزة إلى كل محافظات مصر شمالها وجنوبها.. لتشتد المنافسة وتصبح الشنطة الرمضانية تجارة رابحة للشركات والمحلات الكبرى.

فماذا تمثل تلك الشنطة للمواطن، وهل خرجت من إطار الصدقة إلى التجارة، ومن شراء الذمم إلى ضمان الولاء السياسي؟

البداية تأتى مع المواطن الكادح الذي تمثل له الشنطة الرمضانية ملاذا من جشع التجار وارتفاع الأسعار الجنوني الذي ساد الأسواق خاصة بعد ثورة 25 يناير، وانتشار ظاهرة الإضرابات والاعتصامات مما أدى إلى توقف عجلة الإنتاج وزيادة نسبة البطالة، يقول علي خالد ـ موظف ـ إن الشنطة الرمضانية التي تقدمها المحلات الكبرى بأسعار مخفضة تساهم في التخفيف عني في شهر رمضان الكريم، وتحميني من جشع التجار، خاصة مع ارتفاع الأسعار بطريقة غير معقولة لسلع التجزئة التي تباع من خلال محلات السوبر ماركت، وأقوم بشراء احتياجات المنزل طوال الشهر كله من خلال عرض شنطة رمضان حيث أن هذا العرض يوفر أموالا كثيرة خلال شهر رمضان الذي يتزايد فيه الإنفاق .

بينما تري ثناء علي ـ ربة منزل ـ أن شنطة رمضان لم تعد "زي زمان" حيث أصبح يتحكم فيها التجار المزايدون للأسعار، مطالبة الحكومة بتفعيل الأجهزة الرقابية لضبط السوق ومعاقبة التجار المتجاوزين، وأن تكون هناك آلية لضبط الأسواق وتسعير السلع الضرورية وتفعيل دور الجمعيات الاستهلاكية خاصة مع استغلال التجار لهذا الشهر .

بديل عن المائدة

ويقول الحاج طلبة ـ أحد المداومين علي إقامة موائد الرحمن كل عام ـ أنه استعاض عنها هذا العام بتوزيع شنط رمضان نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار، لتقليل نفقات السرادق وتجنب مضايقات الحي وكذا وصول الصدقة لمستحقيها.

وأوضح أنه برغم اتهام البعض باستغلالها لتحقيق مصالح شخصية، لكن مما لاشك فيه أن الكثيرين يستفيدون منها ولكل امرئ ما نوى، لكنه يؤكد أن مهما نجحت الشنطة الرمضانية في الوصول إلي المستحقين لن تختفي الموائد من الميادين لما تحققه من جو عائلي بين الصائمين .

وعن تفضيل الجمعيات توزيع الشنط الرمضانية بدلا من إقامة موائد الرحمن تقول تهاني البرتقالي ـ رئيسة جمعية أحباء مصر ـ الجمعية كانت حريصة علي إقامة المائدة لمدة 18 عاما لتخدم الطلبة المغتربين، لكن مع ارتفاع الأسعار وعدم توافر عمالة لم نتمكن من إقامتها هذا العام، ولجأنا إلي تقديم شنط رمضان كخزين للأهالي، كما أن الجمعية وجدتها البديل العصري والأمثل من خلال شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية من محلات الجملة وتضيف شنطة رمضان أفضل للأسرة حتى تقوم بطهي احتياجاتها من الطعام فقط، ويقوم بهذا الدور العديد من الجمعيات طوال العام وهناك أنواع من موائد الرحمن توجد نوعا من الحقد الاجتماعي والطبقي فيجب ألا يتحول الشهر إلي موسم للإنفاق والبذخ والإسراف .

من الإعلام لشنطة رمضان

في منطقة مصر القديمة تجتمع هبة وصديقاتها وسط أجولة الأرز والمكرونة وأكياس السكر، وكراتين الزيت والسمن المرصوصة بجوار حبات الفاصوليا البيضاء واللوبيا، لتجميعها في "شنط" يتم توزيعها على الفقراء، وهى العادة التي بدأت هبة وصديقاتها في ممارستها، منذ دراستهن فى كلية إعلام القاهرة قبل 5 سنوات، أول "باكينج" عملناه، كنا لسه فى الجامعة، واحدة صاحبتنا كان عندها فيلا فى البراجيل، وسمحت لنا نشتغل فيها، وكنا بنجمع السلع فى سياراتنا، ونوزع الشنط فى نفس المنطقة".

هذه أول ذكرى لـ "هبة" عن توزيع شنط رمضان، تحكيها لنا، وهى تحكم إغلاق كيس الأرز، وتعطيه إلى صديقتها منى، التي تقول "الشباب كانوا ينقلون أطنان الرز والمكرونة إلى الدور السادس، ونحن كنا نوزع السلع على الشنط".

تبتسم هبة وهى تسترجع ذكرياتها قائلة: سبحان الله، الأصل فى الموضوع إني كنت أذهب مع صديقاتي لنصلى معا فى أحد المساجد فى رمضان، ووقتها فكرنا أن نساعد فى عمل الخير، ومن هنا بدأت فكرة أسرة (خطى) الطلابية، التى ضمت هبة ورفيقاتها فى كلية الإعلام، ليبدأوا منها ممارسة أعمال الخير، لكن ذلك الكيان لم ينته بعد تخرجهن..

تقول هبة: بعدما تخرجنا من الجامعة، أطلقنا على أنفسنا اسم فريق خطى، والآن عددنا بيكبر، والخير بيزيد،(المستفيد من الخير مش بس الأسرة اللى بتاخد الشنطة.. إحنا كمان) هذا ما اكدته هبة وصديقاتها فـ "القضية مش بس في إننا بنعمل شنط رمضان، إحنا كنا بنصلي مع بعض ونذكر ربنا مع بعض وندعى.. وإذا كان الفقير بيشبع.. فنحن نرتوى برحمة الله".

مشهد سنوى

هرولت السيدة العجوز نحو السيارة الفارهة وشفتاها تتمتمان بالدعاء وفى عينيها نظرة توسل تمتزج بابتسامة رجاء، تلقفت الكيس البلاستيك الكبير وأحكمت قبضة يديها بعد أن فتحت جزءا بسيطا منه وأطالت النظر داخل محتوياته ثم علا صوتها بالدعاء. ابتعدت بخوف وكأنها تخشى أن يرجع الرجل فى كلامه وأن يجذب منها الكيس بعد طول الانتظار. عادت لمنزلها الصغير واجتمع حولها الأولاد والأحفاد فأخرجت محتويات الكيس وتهللت وجوه الصغار بالفرحة وامتدت أيديهم على البلح وبحثت أصابعهم عن الياميش داخل الكيس ورفعت السيدة كفيها إلى السماء قائلة "الحمد الله.. رمضان كريم" واشتد فرحة العائلة عند رؤية مبلغ من المال يمكنهم من شراء ملابس جديدة للعيد، مشهد يتكرر خلال شهر رمضان، ينتظره الفقراء "شنطة رمضان" تلك الشنطة التي يتكالب الفقراء للحصول عليها، وعلى الرغم من جمال الشهر الكريم ودعواتنا لاستمرار عمليات البر والخير فإن شنطة رمضان تحولت فى السنوات الماضية من عمل خيرى يستهدف الثواب إلى دعاية سياسية، ففي إحدى قرى محافظة القليوبية قام أعضاء حزب الحرية والعدالة بتوزيع الشنطة الرمضانية ومعها ورقة دعاية للحزب وردا لبعض الشائعات التى يروجها الآخر من قبيل تفتيت الأصوات التى تدعم الإخوان، وقد عنونت الورقة ب(فلم الأكاذيب التسعة، إخراج الإعلام المضلل، وإنتاج شركة الفلول)

من الاخوان للوطنى

هكذا تطور دور شنطة رمضان كثيرا ليخرج من طور الصدقة أو التكافل الاجتماعي إلى طور المنافسة للاستيلاء والاستحواذ وتعددت الأهداف السياسية والتجارية، حيث تلقفتها الأحزاب والقوى السياسية والمتاجر الكبيرة والأسواق وكبار التجار، ونفذها البعض على سبيل الدعاية الانتخابية والاستقطاب، وكلنا يذكر أنه فى عام 2010 و 2005 تم تكليف أعضاء مجلس الشعب من الحزب الوطني رسميا بتنفيذ شنطة رمضان في دوائرهم على أعلى مستوى وذلك لمنافسة الإخوان في ذلك المجال لضمان شراء الذمم والأصوات الانتخابية. والغريب رغم تبني الحزب الوطني هذه الفكرة ـ التي يقال أن الإخوان أول من بدأها ـ وتفعيلها بهذه الصورة الملفتة إلا أنه كان يمنع أصحاب الفكرة الأصليين من تنفيذها، ويلاحقون أمنيا حتى يحولوا بينهم وبين توصيل هذه الخدمة للناس.

على أية حال وصل الأمر بالشنطة الرمضانية إلى أن أصبحت هاجس الفقراء في قبيل بدء شهر رمضان، يبحث ويسأل حتى يعرف أماكن توزيعها ومن يوزعونها.

لا للشنطة المسيسة

بعد ثورة 25ينايرالتى توسم المصريون فيها الأمل فى تحقيق العدالة الاجتماعية، وبعد شهور من تعطل الأعمال وزيادة نسبة البطالة وتآكل الطبقة الوسطى لتلحق بخط الفقر.. أًبح الكثير من محدودي الدخل من الموظفين ينتظرون شنطة رمضان، فهو يعمل يوميا ويحرم نفسه من ملذات الحياة ليوفر بعض النقود لأولاده وزوجته، وعندما يأتى الشهر الكريم يعجز أيضا عن شراء احتياجاته ليجد نفسه منتظرا شنطة رمضان، يتسول الأرز والمكرونة والزيت ومحتوياتها التى قد لا تكفى الأسبوع الأول من الشهر الكريم.

فمتى يتوقف الإنسان المصري البسيط عن انتظار شنطة رمضان؟ ومتى يستطيع أن يتدبر أموره وأن يكون قادرا على سد احتياجاته الأساسية؟ ومتى يكون المواطن قادراً أن يقول كلمة (لا) (شنطة مسيسة) لا علاقة لها بمبادئ الدين الإسلامي فمن يملك غذاءه يملك قراره.

الشرع والحقيبة الرمضانية

يرى الدكتور نصر فريد واصل أن شنطة رمضان واحدة من صور التكافل الاجتماعي في هذا الشهر الكريم التى أمر الإسلام بها لما له من فضائل كثيرة تجعلنا نتقرب من الفقراء والمساكين راجين الثواب من الله سبحانه وتعالي، ومن صور التكافل الاجتماعي والحقوق الأسرية التي يجب أن تحظى بالعناية والاهتمام من بداية هذا الشهر الكريم ولا تنقطع طوال السنة الزيادة فى بر الوالدين والقرب منهم والتحبب إليهم، لما له من الأجر العظيم والثواب الكبير والإحسان إلى الأهل والأولاد، وذلك بالتوجيه الرشيد والكلمة الطيبة والتعامل الحسن وكذلك بالتوسعة عليهم ماديا بحدود المصلحة وصلة الرحم والأقارب والصدقة على المحتاج منهم وتفقد الجيران وزيارتهم والتعرف على أحوالهم وظروفهم ومساعدة الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والنظر فى حاجاتهم. ويجب على المزكي إعطاء الفقراء زكاتهم باليد، ولكن فى هذه الأيام لا يعرف المزكي الفقراء وخاصة فى المدن التى لا يعرف الجيران بعضهم بعضا، لذلك يجوز إعطاء الزكاة للجمعيات الأهلية الموثوق بها لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين وهذه العادة الرمضانية المباركة تعتبر من أهم أدوات تحقيق التكافل الاجتماعي وتوثيق روابط الأخوة والحب بين أفراد المجتمع مادامت خالصة لوجه الله تبارك وتعالى وخالية من النفاق والرياء والتفاخر والمظهرية.

تغير الثقافة

د. إيمان الشريف أستاذ علم النفس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية تقول: الأصل فى موضوع شنطة رمضان هو الإحسان والمساعدة وإكرام الفقير فرمضان شهر عبادة وصدقات فهذه هى حكمة الشهر الكريم ومع تغير ثقافة المجتمع تغير مفهوم الشنطة وتحولت الشنطة من الصبغة الدينية للصبغة الاجتماعية الطبقية التى تتباهى بشنطة رمضان ومحتوياتها أو الصبغة السياسية حيث تتنافس التيارات السياسية لكسب مؤيديها، ففكرة توزيع الخيرات تغير مفهومها فمن يعطى صدقة يعلن عن اسمه وأصبح المقصود منها الرياء والمنفعة.

وتشير الشريف: إلى أن شنطة رمضان لا يتكالب عليها الفقراء فقط بل أيضا البسطاء والموظفون بل إن البعض يأخذها وهو لا يحتاج إليها وقد يعطيها لآخر ولكنه يأخذها إيمانا منه بأنها حق يعوض به حرمانه ويشفى به حقده, فالموظف قد يكون قادرا ولكنه يأخذها من مكان عمله إذا كانت توزع بالمجان لأن (حقه مهضوم) فى مكان عمله لذلك يشعر بأنها حق مكتسب من الكبت والقهر طوال الـ30 عاما الماضية، موضحة أن ذلك الشعور خطر على المجتمع وقيمه ومبادئه فيساعد على انتشار الجريمة والتواكل وغيرها من الأمور السيئة السلبية.

احتياجات الفقراء

أما د.رفعت عبد الباسط أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان فيؤكد أن مجتمع الأسوياء لا يوجد به فوارق كبيرة لكن مجتمعنا يوجد به ما يقرب من الربع تحت خط الفقر، وتعتبر شنطة الخير وموائد الرحمن نوعاً من التواجد والمحبة فالشنطة عمل خيري تكافلي وليس من المفروض أن يكون فئوياً أو سياسياً أو يخدم تياراً بعينه لما فى ذلك من تأثير ضار على المجتمع.

ويضيف عبد الباسط أن المجتمع السليم لابد أن يجد أفراده قوت يومهم وأن يؤمنوا حياتهم وأن يتلقى الفرد فيه راتبا يتفق مع مجهوده وأن يكون دخله كافيا، فالفقر هو أحد أسباب التدهور البيئى خاصة إذا تزايدت احتياجات الفقراء متجاوزة قدرة الموارد البيئية المتوافرة، حيث لا تتيح لها إمكانية التجدد، فالفقر عنصر أساسي في الاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى أننا أصبحنا نرى أن الإنسان لا يحب نفسه وغير قادر على التعبير، وبالتالي فإن مساعدة الناس على المبادر والمبادأة وتحسين ظروفهم أمر هام، ويأتي في مقدمة ذلك وضع قضية العمل على سُلَّم أولوياتنا حيث إن العمل من أهم العوامل التي تقي من الاضطراب النفسي له ولمن حوله .

 

المصدر: مجلة حواء- محمد الشريف

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,890,371

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز