أزمتنا الحقيقية

فى نصف المشكلة ونصف الحل

بقلم :أمل مبروك

كيف يحدث التغيير أو التطور الهائل في المجتمعات؟ توجد نظريتان في استقراء التاريخ تقفان على طرفي النقيض فى هذا المجال، الأولى: هي "نظرية الرجل العظيم"، وهي ترى أن بعض الأشخاص العظام الذين يتمتعون بكاريزما غير مسبوقة يقودون حضارات نحو مسار مختلف من التغيير الذي قد يكون إما تقدما أو دماراً، ويصبح تفسير الكثير من الأحداث التاريخية بالتالي مرتبطا بشخص ما يتحمل هو مسئوليته او يحصل على شرفه.. مثلما اختزلت قصة نهضة جنوب أفريقيا في عظمة مانديلا، وتحرر الهند بغاندي، وأصبح هتلر هو من قاد ألمانيا نحو الجنون وأشعل الحرب العالمية .

وفي المقابل هناك النظرية الثانية: "نظرية روح الزمن" والمقصود بها تفاعل الدول والمجتمعات مع العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمناخات الثقافية والروحية والفكرية والأخلاقية لذلك الزمن أو العصر، وبالتالى فإن القائد التاريخي من هذا المنطلق ما هو إلا نموذج لعصره وزمنه .. فعندما كانت روما مهيأة لأن تكون امبراطورية عظيمة في زمنها فإن الدور التاريخي الذي لعبه قيصر كان يمكن أن يقوم به شخص ما آخر سيحل محله اذا لم يأت ويقوم بنفس الدور، وحركة الحريات الوطنية في أمريكا لم تقم بسبب مارتن لوثر كينج ولكن لأن الظرف التاريخي لها كان يحتم أن تظهر الحركة كما حتم أن يكون لها قائد في تلك اللحظة التاريخية، وفرنسا كانت مهيأة لأن تكون إمبراطورية ونابليون ابن زمنه الذي حتم أن يظهر لتلك الدولة الصاعدة كقائد في تلك اللحظة التاريخية، والرواية الملحمية الشهيرة للأديب الروسي ليو تولوستوي "الحرب والسلام" عبرت بكل وضوح عن تلك الفكرة في تناوله لأوضاع روسيا إبان غزو نابليون لها، حيث ذكر مقولته الشهيرة : " الملوك عبيد التاريخ.

آلاف التفاصيل

البعض منا - وهم الإخوان المسلمون وأنصارهم - يدعون للتغيير من خلال القائد الملهم الذي خرج من عباءة التاريخ، والبعض الآخر - وهم باقى التيارات الليبرالية والمدنية - يدعون للإصلاح والتطهير من أجل تهيئة روح الزمن لإحداث التغيير، وحول هذا وذاك تدور - للأسف الشديد - صراعات واحتكاكات عنيفة لاتؤدى إلا لتقهقرنا اقتصاديا وتراجعنا أخلاقيا ، بينما المهم هو الانتقال من طرح الأفكار كعموميات تعيد انتاج نفسها إلى خصوصيات تنظر إلى بؤر معينة وتعي أن في كل بؤرة آلاف التفاصيل التي تحتاج لعمل جاد على أرض الواقع يعالجها ويقدم فيها شيئا، لأن معضلة التنفيذ السليم هي أزمتنا الحقيقية، ومشكلة الإدارة السليمة لمؤسسات الدولة هي التحدي الرئيسي.

قد يقول قائل أن اصلاح العموميات كفيل بتحسين الخصوصيات، فمجلس بلدي بصلاحيات سيكون دافعا لتحسين عمل الأمانات ومجلس شعب منتخب هو الخطوة الأولى لتحسين عمل الوزارات، والقضاء على الفساد كفيل بالارتقاء بأجهزة الدولة، وهذا طرح مهم وصحيح، ولكنه نصف المشكلة ونصف الحل، فالنصف الآخر هو المشكلة الإدارية الكبيرة التي تعاني منها أجهزة الدولة، معضلة التفاصيل التي تتعلق بالعمل اليومي، والمعالجة الحقيقة لمشاكلنا هي بالعمل على هذين المسارين بالتوازي، سنغافورة التي تحتل مرتبة متقدمة في الدول الأقل فسادا في العالم طبقا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية تحتل في المقابل مرتبة متوسطة إلى متدنية في مؤشر الحريات والديمقراطية الذي تصدره مؤسسة بيت الحرية "فريدم هاوس" ، وهذه ليست دعوة للانتقاص من الديمقراطية والحريات كأحد أسس ارتقاء المجتمعات ولكنها تطرح نقطة في غاية الاهمية وهي الأداء الإداري الجيد لأجهزة الدولة، وهو أداء أثبتت بعض التجارب أن تحسينه والارتقاء به ينفصل أحيانا عن عموميات الإصلاح المتعلقة بالديمقراطية والحريات على سبيل المثال، ولذلك فإن العمل على هذين المسارين الإصلاحيين المتوازيين مطلوب، إلا أننا نشهد اندفاعا كبيرا في أحد الاتجاهات دون ان نعير الاتجاه الآخر الاهتمام الذي يستحقه.. أجهزة الدولة المختلفة لدينا بناؤها الإداري هزيل وضعيف جدا، وإصلاحها إدارايا من الداخل من خلال النظر لها بتعمق وطرح مشكلاتها وحلولها التي تتعلق بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل هو إحدى المسائل التي آن الأوان ان نعيرها مزيدا من الاهتمام، فنحن لا نزال نقدم العربة على الحصان ونهتم بشكل العربة ومن سيركبها بينما الحصان الذي يفترض به أن يجر تلك العربة هزيل وضعيف جدا ولا أحد يهتم به، لأننا باختصار لا نحب التفاصيل ونفضل أن نقرأ موجزا عن المشكلة والحل بدلا من تشمير سواعدنا والغوص في جذور المشاكل، ولذلك كلنا نفتي في كل المسائل وكلنا نعلم مشاكل القضاء والمحليات والوزارات وكلنا لدينا حلول لنطرحها على كل هذه الأصعدة، لكنها كلها سامية تدور في الفضاء ولا يهبط منها لأرض الواقع إلا القليل .

إذا كنتم تتفقون معى فى هذا الطرح فأتمنى أن نبدأ من الآن وليس غدا أو بعد ساعة فى أن يقوم كل مصرى ومصرية فى تطهير نفسه والمحيطين به من أى شائبة فساد أو تقصير .. وستذهله النتائج المبهرة بلاشك

 

 

المصدر: مجلة حواء -أمل مبروك
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 722 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,817,461

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز