كتبت : سكينة السادات

حكيت لك الأسبوع الماضى طرفاً من حكاية قارئتى السيدة صفية – 55 سنة- التى تخرجت هى وإخوتها الذكور الثلاثة فى الجامعة، وهى الابنة الوحيدة لأمها على ثلاثة ذكور، وكانت قريبة منها إذ كانت المولودة الثالثة بعد ولدين، ثم رزقت الأم بالابن الصغير أحمد الذى تعلقت به كثيراً وتعلق بها، حتى أنه هو الذى ظل معها فى البيت بعد وفاة والده وزواج إخوته الكبار وأخته الوحيدة السيدة صفية التى تزوجت من مقاول شاب من أسرة صديقة لأسرتها ولم تعمل بشهادتها الجامعية إذ كانت مدللة منذ نعومة أظافرها لكنها كانت تزور أمها يومياً نظراً لأنها كانت مريضة.

وللأسف أصيبت فى السنوات الأخيرة بمرض الزهايمر وهو فقدان الذاكرة، فكانت أحياناً تنسى أسماء أولادها لكنها لم تنسى أبداً أى شىء عن الابن الأصغر أحمد، الذى تخرج فى كلية الحقوق وفضل العمل الخاص حتى يتفرغ لرعاية أمه، حتى أنه كان يرفض أن يعطيها أحد الدواء سواه، ورفض الزواج بحجة أنه لا يريد أحداً يضايق أمه،  وقالت السيدة صفية أنهم حاولوا إقناعه بالزواج فلم يوافق وظل لصيقاً بأمه يعطيها أولوياته فى كل شىء، وكان ذلك الأمر يسعد السيدة صفية وإخوتها، حتى تطور مرض الأم إلى حالة الزهايمر الشديدة وأصبحت لا تعرف أولادها ولا أحفادها وتغير سلوك الأخ وبدأت المأساة!

***

واستطردت السيدة صفية.. وأصبحنا نذهب إليها فتنظر إلينا وتسأل ابنها.. مين دول يا أحمد؟ فيسكت أحمد، وأقول لها: أنا ابنتك صفية يا ماما نسيتنى ولا إيه؟ فتسكت أمى ولا تنطق بأى كلمة، وكنت أذهب إليها وأحاول أن أعطيها حماماً دافئاً وأبدل ملابسها فرفض أخى أحمد، واتفقنا بأن نعين لها ممرضة خاصة وهذا فى إمكانى بعد أن حصلت على ميراث كبير من أبى لكننى اشتريت الشقة التى تعيش فيها  أمى حتى لا يخرجها أحد من شقتها فى مستقبل الأيام كما نرى ونسمع فى أخبار الحوادث هذه الأيام وكان ذلك قبل أن تفقد الذاكرة، وكم شكتنى وعاتبتنى بقولها إن الشقة باسم والدى ومن حقها أن تعيش فيها وهى بالإيجار وأنه لا لزوم لشرائها، لكننى أصررت على تأمينها خاصة أننى لم أتأكد أيامها عما إذا كان أخى أحمد سوف يستمر على رفض الزواج أم أنه سوف يتزوج فى يوم من الأيام وتتحكم زوجته فى الشقة! هكذا كنت أحب أمى وأنكر ذاتى ومال أولادى من أجلها حتى أصيبت بالزهايمر وفقدت الذاكرة وتحكم أخى أحمد فى كل مقدراتها، فقد صارت تنظر إلي أنا وإخوتى الكبار كأننا أغراب ولسنا أولادها.

بل العجيب فى الأمر أنه وبعد أن كنت أنا التى أشترى لها معظم لوازمها وأطعمها أحياناً وأبدل لها ملابسها صارت ترفض أن أقترب منها وتطلب من أخى أحمد أن يقوم بهذه الأعمال وترفض أن يقوم بها غيره! وكان أحمد فى هذه الأحوال يقول إن كل ما تريده أمى لابد أن يتحقق ولا أحد يزعجها ويفرض عليها أى شىء!

***

واستطردت السيدة صفية.. وأخيراً يا سيدتى حاولنا أنا وإخوتى الكبار أن نقنع أخى أحمد أن نودع أمنا بإحدى دور المسنين الغالية الثمن حتى تخضع للإشراف الطبى اليومى وراسلنا كبار الأطباء فى الخارج وفى مصر للاطلاع على آخر علاج لمرض الزهايمر وحصلنا على بعض أنواع الدواء المفيدة فى تلك الحالة لكن المرض نفسه لم يظهر له أى علاج ناجح إلى الآن!

ورفض أخى أحمد الفكرة شكلا وموضوعاً بدعوى أن مريض الزهايمر فى تلك الدور يتعرض “للبهدلة والضرب وسوء المعاملة”، وحاولنا إقناعه بأننا سوف نراقب الأمور كل يوم وسوف تكون هناك مرافقة دائمة للوالدة حتى نضمن تناولها للدواء ونضمن سلامتها ونظافتها، ورفض أخى رفضاً باتاً وهددنا بإبلاغ البوليس بأننا نريد أن نقضى على أمه ونتسبب فى موتها، ولا نعرف كيف أقنع أمى بهذه الغربة فصاحت فى وجوهنا أنا وإخوتى واتهمتنا بمحاولة قتلها وطردتنا من البيت وقالت لنا: مش عاوزة أشوفكم هنا تاني!

ماذا أفعل يا سيدتى.. أخى يمنعنا من رؤية أمى المريضة بحجة أنها لا تريد رؤيتنا وهى لا تصدق أحداً سواه ولا تثق بأحد سواه وأنا وإخوتى نبكى ليلا ونهاراً حزناً عليها فماذا نفعل بهذا الأخ؟

***

إنه شيء محير للغاية! فأخوك أحمد أصغر إخوتك والأثير عند أمه لم يقصر مع أمه فى شىء بل ترك عمله فى مكتب المحاماة الخاص من أجل الاهتمام بها طول اليوم ولم يتزوج حتى الآن لأنه لا يريد أن يتمكن فيها أحد، ولكن ليس من حقه أن يمنعك أنت وإخوته أولادها من رؤيتها والاطمئنان عليها من وقت لآخر، فهذا هو حقها عليكم لاسيما وأنها فى حالة الزهايمر لا تعرف ما يفيدها أو ما يضرها، وتعتمد اعتماداً كلياً على ابنها الصغير الذى لازمها طول عمرها، والحق أنك قدمت لأمك كل ما تستطعين، ولكن أرجوك ألا تنقطعى عن زيارتها مهما قالت وفعلت فهى لا تدرك ماذا تقول أو تفعل، أما أحمد فتقولين “إنه طمعان فى الشقة بعد وفاة الأم”، فأرجوك ألا تظلميه وتأكدى من هذا الكلام، وأخيراً لا تتركوا أمكم بعدم رؤيتها لأى سبب من الأسباب والله المستعان.

المصدر: كتبت : سكينة السادات
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 585 مشاهدة
نشرت فى 9 سبتمبر 2021 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,819,549

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز