منهمكة فى إرتداء ملابسها، وفى تفكيرها
قال لها :
أريد حذاء جديدا.
قال أخوه:
هل هذا وقت حذاء .. مدرس الكيمياء يريد نقوده.
قال الأول:
تريدنى أمشى حافيا.. أصابعى تخرج من فتحات الحذاء، ولم يعد ينفع فيه تصليح.
قال الثانى :
المدرس قال لى إذا لم تحضر النقود فى الحصة القادمة لن تحضر الدرس.
قالت الصغيرة:
ماما.. أنت ذاهبة إلى فرح.. لماذا تلبسين بلوزة الفرح.. خذينى معك
أخيرا تكلمت:
لا ياحبيبتى سأقابل واحدة صديقتى .. لا .. زميلتى فى المكتب.
«لم أتوقف أمان هذا السؤال من قبل.. صديقة أم زميلة.. الوحيدة التى أمد لها يدى، وأتحمل تفريعها الذى تسوقه فى ثوب النصحية:»
- أنت التى تفعلين هذا فى نفسك.. غاوية فقر، وقلة قيمة.. واحدة غيرك تركب سيارة فاخرة، وتلعب بالمال لعبا.
«ولا أفهم كيف يكون ذلك، والراتب لا يفى بمطالب الأولاد»
قالت ذات مرة :
لم لا تتزوجين ما دمت عنيدة ولا...........
«قطعت كلامها، ولم أهتم بسؤالها عما تقصده فقد اعتدت أن أدعها تقول ما تريده دون تعليق منى بل دون انتباه، وحين تنتهى من وصلتها التقريعية المعتادة، تعطينى ما طلبت مشفوعا بجملتها الأخيرة»
لا تتأخرى فى السداد .. أول الشهر .. فاهمة ؟
اليوم صممت على أن أقابلها ليلا لتقرضنى المبلغ.. حددت المكان..
هناك قهوة الشيشة فاهمة...
«ولما اعترضت بأننى أختنق من رائحتها صممت على ذات المكان ولما شاهدت تبرمى اقتربت، وربتت على كتفى ولأول مرة أسمع صوتها حنوناً».
اخرجى .. استنشقى الهواء.. شاهدى الناس.. عزماك يا سيدتى على شاى كومبليت.. عيشى حياتك.. مرة واحدة من نفسك.
- والأولاد.. فى هذا الوقت أتابع مذاكرتهم.
- جددى حيويتك من أجلهم .. لا تتأخرى.
- لكن.
- البسى أفضل ما عندك.. رتوش بسيطة على وجهك تمنحك الثقة فى نفسك تعطرى لتشعرى بالتفاؤل ولو ليوم واحد.. جربى.
نظرت فى ساعتها خلال استرجاع أحداث اليوم أكثر من عشرين مرة دون أن تسجل فى ذهنها الرقم.. ابتسمت حين استعاد ذهنها صوت الصغيرة وهى تغلق الباب خلفها:
- هاتى لى معك حاجة حلوة.
بادلتها الابتسام..
رجل فى منتصف العمر .. أنيق فى بذته الأسبور.. وقف غير بعيد.. تبسم.. أومأ برأسه.. صك مفاتيحه فى بعضها.. أخيراً تنبهت له شهقت فى نفسها:
«إنه يشير لى»
نظرت هذه المرة بوعى إلى ساعتها.. وعرفت أنه مر نصف ساعة كاملة وهى تجلس هكذا وحيدة.. الأخرى لم تأت بعد .. صعرت له خدها، ولسان حالها يقول:
«حالا تأتى صديقتى وترعف أننى لم أجلس هنا من فراغ»
ولكن الصديقة لم تأت، وهو لم ييأس.. راح، وغدا واستدار، ولف المكان، وعاد ، ووقف قبالتها، وفسر إشاراته أكثر.
كل شىء فى هذا الوقت يؤلمها.. الوحدة المشبوهة.. دخان الشيشة المعتقة وهذا الواقف يطلب ودها.. أسندت جبهتها بقبضة يدها مغمضة عينيها.. حين رفعت وجهها لم يكن واقفا.. تنفست.. اقتحمت أنفها دفعة قوية من هواء التبغ أفسدت احساسها بالخلاص.. نظرت إلى ساعتها فى قلق:
ساعة إلا ربع تأخير.. ماذا أفعل.. هل انصرف أم انتظر.. هل للغائب الأن عذر يقوله أم أن النية مبيتة على عدم الحضور !!
يا لهذه الليلة الليلاء .. رجل آخر .. هذه المرة من الأشقاء العرب.. جلبابه الأبيض.. الناصع.. ذقنه السوداء المهذبة.. تليفونه المحمول آخر صيحة.. يمشى ويتكلم.. يستدير.. يغلق التليفون.. يضعه فى جيبه بهدوء لافت و.. يستأنف تصرفات الشخص السابق.
ما هذا هل يتلقون دروسا فى مدرسة واحدة.. يارب.. هل أنا فى وضع سيئ لهذه الدرجة .. ساعة كاملة الآن وأنا على هذه الحال.. جاء النادل خلالها
ثلاث مرات.. فى كل مرة أقول له أنتظر صديقتى .. وصديقتى تأخرت أكثر من اللازم.. واذا مشيت لا أعرف رد فعلها .. هل ستعذرنى أم تلومنى أم تقسم بأنها لن نقرضنى بعد اليوم.
الولد يريد حذاء.. الثانى ثمن الدرس.. والصغيرة تريد حلوى.. وهذا الصفيق الواقف هناك يبلبل فكرى فى اختيار القرار بالبقاء أو...
نهضت .. لملمت نفسها ونهضت.. شمخت بقامتها ومشت فى خطوات معتدلة تستعيد شتاتها رويداً رويداً كلما ابتعدت عن دخان الشيشة وظل الواقف المترقب حتى استقبلها هواء الشارع بهوائه النقى.
فى زحام الأتوبيس لم تشعر بدفعها يمينا وشمالا وسط شد الناس وجذبهم وهم يعدلون من وضعهم المرهق.. كان كل تفكيرها فى شراء البيض واللبن والعيش الفينو لكى يتعشى الأولاد، ويناموا فى سلام.
استقبلوها فرحين :
- ما كل هذه اللفافات يا أمى.. هل أحضرت نقودا ؟
قالت وهى تشعر بسعادة تجهل مصدرها:
- اتعشوا أنتم، وناموا.. وإن شاء الله ربنا سيفرجها.. والله سيفرجها.
ساحة النقاش