غدا يناقش مجلس الأمة مشروع تعديل التشريعات الخاصة بالاسرة.. هذا المشروع الذى أحيط بسياج حديدى من الكتمان طوال السنوات الاربع التى مضت فى وضعه... و بلغ من الرغبة فى قرض السرية المطلقة عليه أن أقسم أعضاء اللجنة فيما بينهم على المصحف ألا يتكلم واحد منهم فى تفاصيله خارج الجلسات، كأنه سر حربى خطير يخشى على الوطن من ذيوعه...

    و واضح بالطبع أن أى تعديل.... فى أى تشريع يمس حياه الناس.. لا يصح أو يجوز أن يعامل معاملة الاسرار الحربية، لان المصلحة الوطنية تقضى بضرورة طرح الاتجاهات التشريعية الجديدة.. قبل البت فيها.. على الرأى العام لمناقشتها و الاسترشاد بملاحظات أهل الفكر عليها، ضمانا لتعديلها بالصورة الكاملة المحققة للفائدة المرجوة منه..

    و لكن الذين و كل اليهم وضع مشروع التعديل لم يلجأوا الى هذا الاسلوب الديموقراطى السليم،و بدل أن يمنحوا أنفسهم أرصة الاستنارة بتوجيهات المواطنين الصالحين، اختاروا أن يقسموا على اقامة أمنع السدود بين أعمالهم و بين محكمة الرأى العام، حتى يقيدوا أيدينا عن المساهمة الواجبة فى مناقشة مثل هذا الموضوع الحيوى فى أثره على حياتنا الاشتراكية الجديدة.

    و لقد كنا نتصور أن الاوان قد لاطلاق سراح المشروع الحبيس، بعد أن تحدث عنه السيد (بدوة حمودة) وزير العدل فى احدى جلسات المؤتمر الاخير للمرأة العاملة،و لم يبق بعد ذلك معنى لفرض السرية عليه.. و لكننا كنا مسرفين فى حسن الظن، فبالرغم من الجهود التى بذلناها فى الحصول على نسخة كاملة منه، أخفقنا.. و وجدنا أينما ذهبنا، بما فى ذلك مجلس الامة، من يؤكد لنا أن صيغة المشروع مازالت فى دور الاعداد،و لم يصل العمل فيها الى منتهاه بعد!.

    و أعتقد أنه مجرد عذر يراد به الحيلولة دون مناقشة المشروع قبل وقوع الفأس فى الرأس.. أى عرضه على مجلس الامة بالصورة التى يريدها فريق من الناس... و لكن الامر غير ما يتصورون..

    فلقد ضرب لنا مجلس الامة، خلال مناقشاته لقضايانا الكبرى،و منها التموين و التعليم، المثل الاعلى فى قدرته على تحقيق الخير الوطنى،و زادتنا مواقف إعضائه فى تلك المناسبات أيمانا بكفاءتهم فى صيانة مكاسبنا الاشتراكية الجديدة،و قدراتهم على الجهر بالرأى فيما يتصل بمصالح المجموعة.. التى انتخبتهم و كلها ثقة فى جدارتهم على التحدث بلسانها،و التخطيط لحياتها الحاضرة و المستقبلة بالشكل المحقق لاغراضها و آمالها...
    و أنا لا أشك فى أن أعضاء مجلس الامة أبعد نظرا من أن يمكن خداعهم بمشروعات لا تتضمن سوى اصطلاحات وهمية...

    و مع ذلك أجدنى فى قلق شديد خشية أن تتمكن الرجعية من كسب المعركة بفضل أساليبها الماهرة فى مقاومة كل اصلاح يؤدى الى تحقيق أسباب التقدم الكفيل بتحرير اذهان الشعب من قيود عبوديته لها.. فلقد ظلت الرجعية فى بلادنا منذ قديم الزمن صاحبة الكلمة الاولى و الاخيرة فى حياتنا،و بفضل سيطرتها التامة على منابرنا الفكرية خلال العهود الماضية، أمكنها أن تغذى أمراضنا المتوطنة.. تنعشها و تقويها بالقدر الذى يبيح لها أن تبيع و تشترى فينا.. حتى تجردنا من كافة مقوماتنا، فأبعدنا عن ركب الحضارة و صرنا أضحوكة العالم المتمدين،و لكن دوام الحال من المحال كما يقولون،و أن بعد العسر يسرا، فقد شاءت ارادة الله عزن قدرته أن تعطى الشعب العربى فرصة لتدارك مافاته، فطلع علينا من قلب الظلمات فجر لورى جديد أزال الغشاوة عن عيوننا،و بدأ يوجهنا الى الطريق الصواب، الامر الذى غير وجه الحياة فى بلادنا خلال وقت قصير..

    و بعد أن كنا منذ سنوات معدودات نرتجف ذعرا لمجرد قمرور مركب حربى بالقرب من مياهنا الاقليمية،و نعتمد على الاجنبى فى كافة احتياجاتنا حتى الخيط و الابرة، أصبحنا نقف صامدين فى وجه العالم الاقوى.. و نحرز النصر الساحق فى معاركنا المريرة معه،و نصنع لانفسنا بأنفسنا طائراتنا و دباباتنا و صواريخنا و جميع مايلزمنا من الالات الثقيلة و الخفيفة.

    و بدا واضحا من تطورنا السريع اننا أخذنا نحرر رقابنا من رق الجمود المفروض علينا،و أن عرش الرجعية قد بدأ ينهار من أسـسه،و لم تبق أمامنا سوى فترة قصيرة تصبح الرجعية بعدها مجرد تاريخ ذهب الى غير رجعة، ورأت الرجعية ساعتها تقترب فجن جنونها خوفا على مصيرها المحتوم،و بقوة من (حلاوة الروح) شحنت جهودها فى مقاومة كل تجديد.. و لم تجد أمامها وسيلة أقوى من استغلال براءة الناس وطيبة قلوبهم، فلجأت الى عقيدتهم توهمهم بما يتهددها من خطر ازاء الاصلاحات المتتالية.. مع أم مجرد الادعاء بأن الإصلاح يتعارض مع الاسلام، هو كفر فظيع بديننا الحنيف.. فلقد كان الاسلام أكبر ثورة تقدمية عرفها التاريخ منذ بدايته الى اليوم، و لولا تشريعاته التى اقتبسها الغرب بعدنا بأجيال، ما وصلت أوربا الى بعض مكانتها الحاضرة.. و الفرق الوحيد بيننا و بينهم أنهم أخذوا عنا ثم مضوا فى طريق الحياة فتفوقوا فى حين أننا سجلنا أعظم بداية ثم جمدنا فى مكاننا، فتخلفنا.. و القول بأن أساليب ممارسة هذه التشريعات التى بنى العالم مجده على أكتافها، قابلة للتطور مع مقتضيات الزمن، هو فى رأيى و رأى كل مسلم أصيل محاولة خبيثة لتجريد عقيدتنا من أعرق مقوماتها و ابقاها.

   أنها الحقيقة المخلصة البريئة من الهوى و الغرض.. و مع ذلك فطيبة قلوب الناس تعرضهم لاخطار التضليل مرة بعد مرة،و لدينا الامثلة الكثيرة على أغراض الرجعية فى حملاتها خلال السنوات الاخيرة:

1.    فعندما فاض الكيل بفوضى تمدد المحاكم،و تطلبت المصلحة العامة ضرورة توحيد القضاء و الغاء المحاكم الشرعية و المجالس الملية، ارتفع الصراخ مدعيا أن الاسلام فى خطر، ثم تم المشروع و توحد القضاء،و فاضت خيراته على المجتمع،و بقى الدين بخير و سلام.
2.    و عندما ثار الجدل حول ضرورة تنظيم النسل للحد من جنون الزيادة السكانية التى تأكل مواردنا بجشع،و تهدد مشروعاتنا القادمة، ارتفع الصراخ للمرة الثانية بدعوى أن الاسلام فى خطر، ثم تقررت الدعوة الى تنظيم النسل بقوة الميثاق،و لم يبق الدين بخير و سلام فقط، انما ظهرت أيضا الفتاوى التى تؤكد شرعية الاجراء بأدلة حاسمة...
3.    و عندما اتجهت النية الى تأكيد دور المرأة فى مجتمعنا الجديد باشراكها فى مناصب الوزارة، أنقلبت الدنيا على رءوسنا بدعوى تعارض هذه الخطوة مع تعاليم الدين، ثم عينت الوزيرة.. و جلست على مقعدها...و أثبتت جدارتها، فازداد الاسلام عزة بجهود نسائه الصالحات..


    فى كل موقف اصطلاحى عام لجأت الرجعية الى ذات السلاح تلوح به عسى أن يضعف الناس بدافع من عقيدتهم، فيقفوا فى طريق التقدم..

    و نحن الان نواجه موقعة أخرى مثل هذه المواقع بسبب المحاولة المبذولة لتطوير أساليب ممارسة الناس لحقوقهم الشرعية كوسيلة لاغنى عنها لحماية الاسرة و رفع مستوى الشعب ماديا و معنويا..

    فمع أن احصاءات هيئة الامم المتحدة قد أثبتت بصريح العبارة أننا ضربنا رقما قياسيا فى الطلاق،و سبقنا فى هدم البيوت جميع بلاد العالم.

    و مع أن تعدد الزوجات بصورته الراهنة، خرج بوضوح عن المعنى المقصود به،و اصبحت الضرورة تقضى بقرض ولاية الدولة عليه حماية للمجتمع من أضراره..
 و مع أن سن حضانة الام لابنأها لم تعد تخفى اضراره على المجتمع، بعد أن أثبتت دراسات وزارة الشئون و بحوثها دوره فى شيوع الدعارة و البغاء و التشرد...

    رغم هذا كله، نجد المعارضة تتصدى لنا،و تعمل على سد فم الرأى العام بمشروع هزيل ضعيف لايرجى منه فائدة باعتراف كبار رجال الفكر فى بلادنا.

    و كل ما أخشاه أن يخدع أعضاء مجلس الامة فى هذا المشروع،و يقبلونه على علاته، فتكون الضربة القاضية على أمالنا فى بناء مجتمع اشتراكى جديد تسوده العدالة و يحبوه الاستقرار...

    و الذى أحب أن أقوله هنا لنوابنا الاعزاء: حذار من الوقوع فى برائن الرجعية، ففرض اصلاح التشريعات لاتمر بحياة الامة مرارا،و اذا نحن تركنا الفرصة تفلت من بين أيدينا، نعطل مسيرنا الى الامام.

    ثم أن تعاليم الدين شئ،و أساليب ممارستها شئ آخر، فالاولى باقية لا تمس،و الثانية يجب أن تتطور بتطور الحياة لتلبى مطالب المجتمع المتجدد، و تتيح للشعب فرصة المضى فى طريق تقدمه..

    و كما أن لولى الامر أن يبيح المحرمات ازاء الضرورة فأولى به أن يقيد المباحات مادام الاسراف فى اساءة استعمالها، قد أضر بحياة المجموعة،و عطلها عن القيام بدورها الصحيح فى بناء حياتها الجديدة.

    و المواطن الصالح هو الذى يفرق بين الحريات فى المجتمع الرأسمالى،و الحريات فى المجتمع الاشتراكى..

    فالمجتمع الرأسمالى ينظر الى الفرد من خلال الفرد ذاته،و المجتمع الاشتراكى ينظر اليه من خلال المجتمع الذى يعيش فيه.

    و المجتمع الرأسمالى يطلق للفرد الحريات على عنانها، لانه لا يتأثر بمصيره، فى حين أن المجتمع الاشتراكى يعطى الحرية للفرد بالقدر الملائم للاطار العام، باعتباره لبنة هامة فى البناء الرئيسى،و أى تفتت يصيبه يعود بالتبعية على المجتمع بالتفتت...

    ان الايام القادمة هى الامتحان الحقيقى لوطنية نوابنا الاعزاء،و لمدى فهمهم للاشتراكية التى رشحوا أنفسهم على مبادئها،و انتخبناهم من أجلها..

فهل نوابنا حقيقة وطنيون كما نعتقد فيهم؟
و هل هم حقيقة اشتراكيون كما نأمل فيهم؟

    سوف نجد الجواب عن السؤالين عندما يناقش مشروع الاحوال الشخصية.

المصدر: أمينة السعيد - مجلة حواء
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 974 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,209,960

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز