ما ان تحاول أن تمسك بالعصفور، أو حتي بالفلوس، أي فلوس، حتي تطير، وتطير، وتطير، وهي تخرج لي لسانها ، إذ لا ألحق بها لأنني وببساطة لا أملك مثلها جناحين سريعي الحركة والتحليق في الفضاء البعيد في لحظات مثله .. ولست وحدي في الافتقار إلي هذه القدرة الرائعة علي «الزوغان» و«الطيران» ، إذ يشاركني في هذه الموهبة المفقودة معظم الناس من كل الأعمار.

أما كلمة «الفلوس» في حد ذاتها فقد أصبحت «لبانة» متجددة في أفواه كل بلاد الدنيا، من بعد الأزمة الاقتصادية التي أثرت علي كل الناس، في كل الدول سواء الغنيـــــة فيها أو الفقيــرة .

وفى لحظة ضيق شديد، انتابنى لحظة تفكير ثقافية، صحفية قررت أن ابحث فى المسألة بطريقة علمية لكن بسيطة، حتى لا أزيد من تعب دماغى الذى هو تعبان جاهز من الفلوس، وكل ما يخص الفلوس من بعيد ومن قريب .

وفى لحظة تنوير ، اكتشفت أننا قد نمسك بين أصابعنا بعدد من أوراق البنكنوت ، أو العملات المعدنية، أو الشيكات، ثم نسلمها لم نتعامل معه فى شراء شىء ما ، أو فى اتمام صفقة تجارية، أوفى مقابل أداء عمل ما ، دون أى تفكير فى قيام مناقشة حول تقبل أى من هذه الأشكال للنقود، بأشكالها الثلاثة .

وفى الحقيقة نحن مدينون لأناس هم أجدادنا الأوائل فى هذه الدنيا، الذى حملوا الأحجار الثقيلة يوما ما، لأن كل حجر فيها كان يعنى ماهو بالنسبة لنا جنيها، أو جزءا من الجنيه.

الحضارة والمقايضة

وفى قديم الزمان، لم يكن الإنسان فى حاجة للمال، إذ كان الناس يعيشون على التقاط وجمع ما يجدونه من ثمار، أو ما كانوا يصطادونه من حيوانات، أو أسماك .. ثم عرف الإنسان الزراعة وبدأ يحصد طعامه من زراعته، واتخذ له مأوى فى كهف، ثم أقام كوخاً ..ثم منزلاً .

ومع الأيام اكتشف الإنسان، التخصص فى حرفة ما ، فصار صياد السمك يجاور صاحب مزرعة الأغنام ، وصار كل منهما لايحتاج الى انتاج الآخر .. فكان يتم تبادل مثلا : المائة سمكة مع خروف .. وهكذا بدأ نظام المقايضة .

لكن مع مرور الوقت والزمان، وجد الناس صعوبة فى هذا النظام الذى نتج عن الحاجة، وبخاصة إذا كان على الصياد أن يسرع بالتخلص من كل ثروته من الأسماك وذلك بتبادلها قبل أن تفسد، فى وقت لم يكن تعرف فيه وسائل التبريد والتجميد .

لذلك، كان عليه أن يبحث عن أشخاص لديهم من البضائع الفائضة عن حاجتهم ، والتى يحتاجها هو ، لكى يقايض بأسماكه معهم .. وهذا إذا كانوا هم فى حاجة إلى سمك .. أصلا.

غرائب البدايات

ثم تماشيا لمشكلات المقايضة، بدأ الناس فى قبول بعض الأشياء باعتبارها ذات قيمة شرائية فيما بينهم، بحسب البيئة ، والزمن، فكانت حبات الخرز ، وثمار الكاكاو ، والملح، والأصداف ، والأحجار، والطباق (الذى يصنع منه السجائر) والحيوانات، والملابس .

وإذا صحبتنى فى جولة فى أسواق للمقايضة حول العالم، فسوف نشاهد فى بيرو وامريكا اللاتينية سوقا للمقايضة فى مجال الملابس . وفى بعض مواقع من افريقيا ، واسيا، واستراليا، يفضلون أنواعاً محددة من المحار ، والواقع، والخرز للمقايضة.

أما فى الصين فقد استخدم الناس ، فى نظام المقايضة ، نماذج معدنية مصغرة من البرونز «للمعزقة» و«الجاروف» كوسيلة نقدية للتعامل فى نحو عام 1100 قبل الميلاد .

كما استخدم الرومان، عبوات من الملح لدفع أجر الجنود والرومان. أما قبائل جزر سانتا كروز شمالى شرقى استراليا، ففضلوا أن تكون عملتهم للمقايضة من ريش طيور الغابات الملونة، يلصقونها معا فى شكل أطواق .

وفى اليابان، صنعوا «شجرة مالية» عام 1800 ، بحيث يمكن كسر فرع من وعها ، الذى يمثل جزءا من عملتها (أى الفكة) .

أول عُملة فى التاريخ

من الثابت أنه قد تم صنع أول عملة سنة 600 ق . م . فى مملكة ليديا - غربى تركيا حاليا - وكانت خليطا من الذهب والفضة، وتحمل خاتم الملك ، كضامن لها . وكان لها حجم وشكل واحد، انقذت الناس من مشقة وزن كل قطعة عملة لتحديد قيمتها .. ولقد تقبلها المتعاملون، بدلا من أى بضائع أخرى للتبادل .

وبعدها ، بدأت دول أخرى فى تقليد مملكة ليديا فى صك العملة. ويؤكد لنا بعض المؤرخين، أن العملات قد اخترعت أيضا فى الصين القديمة، والهند .. كل منها مستقلة عن الأخرى ، وبدون علم بأنه قد تم اختراعها فى مملكة ليديا .

تطور مذهل

عندما وصل «ماركو بولو» - الرحالة الايطالى الشهير، الى الصين فى سنة 1200 م ، تعجب إذا رأى الصينين يتعاملون بنقود من ورق بدلا من عملات معدنية.. لكنه ، لم ينجح فى اقناع الأوربيين للتعامل بها .. وهكذا ، لم يستخدموا النقود الورقية حتى سنة 1600 م ، وذلك عندما بدأت البنوك فى إصدار ما سمى «البنكنوت» للمودعين، والمقترضين.. وكانت تستبدل بعملات ذهبية أو فضية، كودائع بالبنك .. حتى سنة 1800 م .

الفلوس مصباح سحري

والآن، نرى أن الحضارة استعانت بالرمز بدلا من الأصل، فحل المال محل الطعام، وضروريات الحياة . أى أن المال صار هو الأصل، وصارت الحاجيات هى النتيجة .. وكأن المال هو مصباح علاء الدين السحرى، وصار كل انسان يخشى أن يمتلك الآخر مصباحا أقوى من مصباحه.

ومع لوغاريتم الفلوس والعصفور، أصبحت الأمنية الغالية عند الناس، أن يستطيعوا أن يجمعوا ما يضمن السلامة فى المستقبل ضد العوز ، وتقلبات الزمان .. وعفى الله عمن ابتكر الفلوس التى غلبت العصــــفور .

 

 

 

المصدر: ليلي امين - مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,687,174

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز