سجناء الانسانية

كتبت :سكينة السادات

 أحزن كثيراً عندما أرى أمامى رجلا يبكى بدموع غزيرة ولا يستطيع أن يمنع دموعه!! فكما نعرف فإن دموع المرأة أقرب كثيراً إلى المآقى من دموع الرجل، كما أن الطفل يتربى على مقولة «مافيش راجل يبكي» وهنا يصير بكاء الرجل غصبا عنه، وخاصة أمام الأغراب إذ يصبح بكاؤه خارجا عن إرادته فى معظم الأحوال ومن هنا أشفق عليه ويتقطع قلبى حزنا على آلامه!

 

 

- مشكلتى ليس لها مثيل وليس لها حلّ إلا عند الله سبحانه وتعالي! وأقول لك ذلك لأننى حاولت وحاولت وفعلت كل ما يمكن فعله.. بلا نتيجة يا سيدتى حتى يئست ويئس كل من حولنا من حلّ المشكلة!!

واستطرد.. سوف أحكى لك كل شيء بصراحة تامة منذ البداية وأرجو ألا تزعجك صراحتى فقد جئت إليك كأم - كما قالوا لى - لكى أفضفض وأرتاح فأرجو أن تتحمليني!!

  

والتحقت بالعمل فى مكتب مقاولات مملوك لرجل طيب قريب لوالدى من بعيد، كنت أقوم بسكرتارية المكتب كلها وإعداد المقابلات والمناقصات وجمع الفواتير وحضور المناقصات والمزايدات وكما يقولون يا سيدتى .. شربت المهنة!

عرفت أسرار مهنة المقاول والكثير من أسرار المهندس والبائع والشارى وعرفت كيف «أماين» ومعناها كيف أقول كلاما يحتمل أكثر من معنى، كأن أخفى موقفنا المالى أمام المنافسين فتارة أتظاهر بالضعف والفقر وتارة أخرى «أنفش ريشي» أمام المنافس فيخاف ويترك الصفقة ويهرب ويفوز المكتب بها!! ويستطرد «أصبحت الكل فى الكل فى المكتب، وصار الحاج عبدالمقصود - وهو من أكبر المقاولين فى الجيزة - يعتمد علي اعتمادا كاملا فى كل شيء ولا يأتمن أحدا على ماله وأسرار عمله سوى العبدلله!

وكانت جملة سمعتها من أحد الزبائن إذ قال لي بالحرف الواحد..

- أمال لو كنت اتعلمت فى الجامعة كنت عملت إيه؟ دا أنت مقاول ومهندس بالفطرة .. لأ وأحسن من أى واحد جامعي!!

وقررت أن ألتحق بالجامعة وتقدمت بأوراق إلى كلية التجارة بعد أن فشلت فى الالتحاق بكلية الهندسة وذاكرت واجتهدت وحصلت على بكالوريوس التجارة بدرجة امتياز .

ويستطرد قارئى علي.. ولم يتغير شيء فى عملى فأنا كما أنا الكل فى الكل ولكن ما تغير هو صحة الحاج عبدالمقصود المقاول وصاحب العمل الذى كان يعانى من داء الكلى، وكان يحتاج للذهاب إلى مركز الكلى فى المنصورة كل أسبوع لإجراء الغسيل الكلوى وكنت قلقاً عليه دائماً فهو مثل أبى تماماً، وكان ولداه أحدهما ضابط بالجيش والآخر طبيب يعمل فى جلاسجو باسكتلندا، التى سافر إليها لكى يحصل على الزمالة فى جراحة العظام ثم أصر أن يعيش هناك مع زوجته المصرية وأولاده الثلاثة، ولم يبق فى مصر سوى ابنته التى كانت قد تزوجت وطلقت من زوجها وحاول والدها التوفيق بينهما وفشل وكان ذلك من أسباب زيادة المرض عليه!

ويستطرد على قائلاً:

كانت السيدة آيات ابنة الرجل الطيب عبدالمقصود سيدة جميلة فعلا لكنها عصبية جداً وقلقة دائماً لكنها كانت سيدة شريفة وربة بيت محترمة، فقد كانت ترعى والدها ووالدتها وتدير البيت بمنتهى المهارة والدقة، وكنت إذ ذاك قد بلغت السادسة والعشرين من عمرى وكانت هى فى حوالى الثامنة والعشرين من عمرها، أى كانت أكبر منى بحوالى عامين وكانت قد درست بمدارس الراهبات وحازت على شهادة الثانوية الفرنسية والتحقت بكلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية لكنها كانت إذ ذاك لاتزال منتسبة بالجامعة إذ كانت ترسب كثيراً!

ويستطرد قارئى علي .. فوجئت بالحاج عبدالمقصود يقول لى وهو عائد مرهق من الغسيل الكلوى بالمنصورة :

قال : يا على يا ابني.. أنا حاسس إنى قربت أموت.. وحزين على بنتى الوحيدة آيات.. وماليش أى أمنية فى الدنيا غير إنك تتجوزها وتسترها وهية بنت طيبة بس حظها كان وحش وجوزها كان بيضربها كل يوم بدون سبب لأنه كان مريضاً نفسياً وإحنا.

ما نعرفش.. عاوز أشوفها فى حمايتك وتفضل ماسك المكتب من بعدى وطبعا حتحافظ على نصيبها ونصيب إخواتها الصبيان وأمهم وأنا واثق فيك أكثر من ثقتى فى نفسي!

ويستطرد .. حقيقة فوجئت وقلت للحاج ولي نعمتى ومعلمى الأول فى الحياة :

- ولكن يا حاج .. مش ممكن تكون آيات هانم مرتبطة بحدّ أو إنها لا تقبل أن تتزوجنى وتستهين بأمري؟

قال الحاج.. حاشا لله يا ابني.. إنت ما تتعيبش أبدا يا علي يا ابنى .. بقيت جامعى وراجل أمين ومحترم وشايل المكتب كله على كتافك زى ما يكون المال مالك وأكثر.. فين نلاقى أحس من كده أمانة وشطارة وأخلاق!!

 

 

الأسبوع القادم أحكى لك باقى الحكاية!

 

 

ولم أعرض الفكرة على والدى ووالدتى انتظارا لرد الحاج عليّ بعدما يسأل ابنته. فماذا كان رد فعل أسرة «علي»، وهل وافقت أمه على زواجه من مطلقة؟ وهل تمت الزيجة أم لا؟

قال قارئى علي .. بدأت حياتى العملية بدبلوم تجارة ولم أكمل دراستى الجامعية إذ ذاك لفقر أسرتى المكونة من عشرة أفراد، ثمانية إخوة وأخوات وأب يعمل موظفا بسيطاً وأم ربة بيت فقط وكنت أنا كبير الأولاد الذى يجب أن يساعد والده فى إطعام الثمانية ودفع مصاريف المدارس والملابس والنور والمياه وإيجار البيت والدواء والدروس الخصوصية والتليفون الأرضي!

قارئى «علي» رجل ناضج فى حوالى الأربعين من عمره، تبدو عليه ملامح الطيبة والتدين، أحزننى عندما قال لي:

المصدر: مجلة حواء -سكينة السادات
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 517 مشاهدة
نشرت فى 15 ديسمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,948,235

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز