الإرث العفن

كتب :محمد الحمامصي

عشنا ثلاثين عاماً هي فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، عاملنا خلالها نظامه على أننا صم بكم عمي لا نفقه شيئا، ولا نستحق أن نفقه بل ينبغي أن نعيش كالبهائم، والحيوانات نلهث وراء لقمة العيش لنسد بها جوعنا، وجوع أولادنا، وتمكن بلصوصيته، وفساده أن ينشر الأمية والجهل والفقر والمرض والفساد، باختصار استطاع ـ هذا النظام ـ أن يرسخ كل ما هو قبيح في التعامل معنا، وصارت مفاهيم "الاستهبال"، والاستخفاف، والتجاهل، واللامبالاة لدي كل مسئوليه، وكوادره قوانين التعامل مع الشعب، صار كل من هب ودب يضحك، ويسخر ويستهزأ ويستخف ويستعذب معاناتنا وآلامنا باعتبارنا مواشٍ في حظيرته وحظيرة أسياده.

ومما يؤسف له أن إرث نظام مبارك العفن لا يزال مستمراً في المصالح، والهيئات والخطابات الإعلامية بما فيها الدينية للأسف، وتصريحات القيادات والشخصيات العامة من سياسية واقتصادية وثقافية ودينية وغيرها، بل إن بعض قادة الأحزاب، والتيارات السياسية تلقفته ـ أقصد إرث النظام السابق ـ وخلقت منه آليات خطابها، وطرائق مواجهاتها وأساليب معالجاتها، ظانة أن هذه هي اللعبة السياسية للتمكين، غير مدركة أن السياسة شيء والاستخفاف، والاستهزاء بعقول الناس شيء آخر، يقول الواحد منهم كلاماً في الصباح فتصفق له، ثم يرجع ليقول كلاماً مناقضاً في المساء، معتمداً على أن هؤلاء الذين يسمعونه مواشي لا تزال ترعي في عفن الماضي، غير مدرك أن مستمعيه يفتحون الآن عيونهم، وآذانهم، وعقولهم، وأفئدتهم مقارنين ومراقبين ومحللين لكل كبيرة وصغيرة تصدر هنا أو هناك، وأن زمن الحظائر انتهى إلى غير رجعة.

مثلا تصريحات جماعة الإخوان المسلمين التي ما أن استشعر قادتها أنهم يستحوذون على زمام الأمور حتى بدأوا ينهجون نفس نهج الحزب الوطني المنحل في الاستخفاف تارة يصرحون أنهم مع الدولة المدنية، ولا تراجع عنها وأخرى يطالبون بالخلافة الراشدة وإقامة شرع الله في الأرض، وتارة يرون في الثوار مجموعة من المناهضين للثورة الذين يسعون لإفشالها، وأخرى يطالبون بحقوق الشهداء ومحاسبة المسئولين، ومرة يطالبون بتشكيل الحكومة، ومرة ينفون، ومرة يتحدثون عن خروج آمن من المساءلة لقيادات المجلس العسكري، وأخرى يطالبون بمحاسبة المجلس بعد تسليمه السلطة، ومرة يلمحون لأهل ضحايا الثورة بقبول الدية، وأخرى ينفون الأمر، ومرة السياحة منكر وحرام وأخرى "لا مانع"، حتى ليسأل المرء السؤال الشهير للرئيس الراحل معمر القذافي: من أنتم؟!

ثم هل أصبح د.محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين رئيسا لمصر أو رئيسا لحكومتها أو وزيرا لخارجيتها أو مديرا للبلاد في مرحلتها الانتقالية، أو مرشداً أعلي للجمهورية، ومن أي من المواقع المسئولة داخل الدولة تخرج علينا تصريحاته بعد لقاء هذا وذلك من المهرولين لكسب رضاء الجماعة: مرة بخلافة راشدة ومرة بدولة ذات مرجعية إسلامية، ومرة بمحاسبة المجلس العسكري، ومرة بالرضا وعدم الرضا عن توزيع المهام البرلمانية، هل معنى فوز حزب جماعته ـ أقصد العدالة والحرية ـ بـ 47% من مقاعد البرلمان يعطيه الحق في أن يرسم خريطة مستقبل مصر سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا وحتى ثقافيا وفنيا. هو لا يقول رأيا أو يحلل قضية أو يطرح اقتراحا، هو يصرح ويعلن موقفا وقرارا، فهل تخلصنا من ديكتاتورية مبارك الفوضوية المنحلة الفاسدة لندخل إلى ديكتاتورية محمد بديع الإسلامية المنظمة النظيفة، هل يحكم بديع من خلف ستائر أحزاب جماعته؟ هل يعلم أن عصا افعل ولا تفعل مهددا بالفصل لمن يخالفه، هذه العصا التي يرفعها مزمجرا ضد أعضاء جماعته لا يصح أو يصلح ـ مطلقا ـ أن يرفعها على الشعب المصري حتى ولو باسم الدين؟.

تصريحات بعض قادة الجماعة السلفية ،وخروج آخرين لنفيها لا يقل عما تفعله جماعة الإخوان المسلمين خطورة، فقد أصبح الأمر عادة، وها هو أحدهم في مرسى مطروح ـ كما نشر أخيرا ـ يقول "إنه كان يتمني من الله عدم فوز قائمة حزب النور كاملة حتى لا يكون للمرأة دور في تمثيل الحزب بالبرلمان" ويعلن "أن الحزب أجبر علي وضع المرأة في قائمته وكان علينا المشاركة، وطبقا للشرع لا مانع من ارتكاب مفسدة صغري من أجل دفع مفسدة كبري"، الأمر الذي يعني أن مشاركة المرأة مفسدة، وأن ما يتردد عن خروج جماعة تدعى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتنهر النساء السافرات أو حتى المحجبات في حال ارتدائهن ملابس غير لائقة، أمر حقيقي على الرغم من نفي المتحدث باسم الجماعة، هذا المتحدث نفسه الذي يطالب بـ "سياسة شرعية"، هل هناك سياسة شرعية وأخرى غير شرعية، المتحدث لم يفسر ذلك.

الأحزاب الليبرالية وقواها لا تقل تناقضاً عن جماعات الإسلام السياسي وأحزابها، فهي تنتقل من تأييد إلى تنديد ومن رفض إلى قبول حسبما تقتضي مصلحة وصولها للسلطة، تدعي عدم طموحها في السلطة وأن هدفها الأول والأخير استقرار مصر وشعبها، وهي تهرول زحفا إليها عبر تحالفات تقول إن اللعبة السياسية تفرضها، لكن الحقيقة أن الطموح للاستحواذ على السلطة وراءها.

كل ما سبق في كفة وما يخرج من تصريحات للمسئولين عن الاقتصاد المصري في كفة أخرى، حيث ترفع حكومة د.كمال الجنزوري شعار الفقر الاقتصادي وأن البلاد على شفا حفرة من الإفلاس، الأمر الذي شكل فزعا حقيقا داخل الشارع المصري، وأوقف الكثير من المشروعات وضرب الكثير من الأسواق في كل القطاعات، حيث دفعت هذه التصريحات المواطن المصري بكل فئاته إلى الاكتفاء بالإنفاق على المأكل والأمور الخاصة والضرورية جدا وفي أضيق الحدود، وذلك تحسبا لانهيار اقتصادي لا يجد فيه ما يمكنه من توفير وجبة غذاء.

ويبقى أن نشير على المجلس العسكري الذي يدير البلاد أن يتجنب الوقوع في "التصريح والنفي"، و"التصريح والصمت"، و"التصريح واللامبالاة"، واتباع نهج الرئيس المخلوع ونظامه في التعامل مع الشعب، لأنه نهج فاشل كان مصيره السقوط، وأن يؤدوا الأمانة بما يحفظ للجيش المصري تاريخه العظيم.

إن ما نأمل أن يفهمه اللاعبون الرئيسيون خاصة على الساحة في اللحظة الراهنة، أن مستمعيهم ومتابعيهم ومراقبيهم هدموا الحظيرة وعادوا لبشريتهم وينبغي أن يحظوا بالاحترام الذي يليق بالكائن العاقل الذي كرمه الله

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 816 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,700,479

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز