ثورة محمد صلى الله عليه وسلم

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا سيدي يا رسول الله، يا من يصلي عليك الله وملائكته.

لا شك أن اليوم هو أجمل وأروع وأبهى أيام البشرية، حيث يوافق يوما تغيرت فيه تماما خريطة الحياة الإنسانية على الأرض بمولد سيد البشر. ولمن يعتبرون أن كلامي تزّيدا أو مجرد لهفة محب أقدم لهم هذه الآية الكريمة «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» (آل عمران -آية 164).

فمولد الحبيب ما هو إلا منة ونعمة وكرم من رب العالمين، ونحن مأمورون أن نشكر الله على نعمه ونحتفل بها بما يليق بقيمتها، والاحتفال بمولد حبيبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لابد أن يأتي بما يليق بقدره من تدارس لسنته المطهرة والاقتداء بهديه، وفي هذه الظروف التي تمر بها الأمة من ثورات على الظلم وفضح للظالمين لابد أن نتذكر حبيبنا الرسول لأنه هو الثائر الأعظم. فرغم دماثة خلقه ولين جانبه كان محمد بن عبد الله هو من ثار على الظلم والكفر والفساد، هو من رفض المساومة والخنوع عندما قالها واضحة جلية" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته" .. هذه هي الشخصية الثورية الحقة، فالثوري يبدأ برفض ما يحدث في محيطه ثم يبحث في كيفية الحل ثم يتخذ جانبا ليتفكر في أمره وعندما يجد اليقين المقنع والذي يعرف ويتأكد أنه هو الخلاص يهب روحه للقضية ولا يخشى لومة لائم، هذا ما حدث مع رسول الله الثائر الأعظم، فقد رفض الفساد والضياع الذي كانت تعاني منه أمة العرب، وظل يمارس خلوته يتأمل ماذا يصنع، يبتعد عن موارد الشبهات وينأى بنفسه عن منابع الفساد، يقوي روحه ويشحن الجزء النوراني الذي يحوي نفخة الخالق بداخلنا. كان صادقا في وقت عزّ فيه الصدق، وأمينا في فترة ضاعت فيها قيم كثيرة، وصدقه وأمانته إنما هي شكل من أشكال الثورة على أخلاقيات فاسدة تعيش في مجتمع يحتضنها ثائرنا الأعظم، كان خلوقا حتى في ثورته، فلم يصدر عنه قط لفظ خارج ولا كلمة نابية حتى في أحلك اللحظات، كان مهذبا وحاسما في الوقت ذاته ليعلمنا أن الثائر إنما يؤسس للصواب ويثور على الخطأ، لذلك فلابد أن يتحلى بما يثور لأجله ويبتعد عما يثور ضده. الثورة في حياة الحبيب المصطفى لها أدبياتها، فقد رأيناه شابا ثائرا على الظلم، لكن لأنه لا يملك القوة اللازمة المتمثلة في منهج واضح يدعو إليه فقد كان ينتحي جانبا في غاره الشريف يتأمل ويتفكر علّه يجد السبيل، ومن هذا نتعلم أن الثائر الحق لا يثور لمجرد الثورة ولمجرد أنه وجد وضعا خاطئا، لكنه يثور بمنهج ولقضية واضحة وبنودها موضوعة بدقة، فعندما جاء الوحي وتأكد الحبيب أن ما يحدث هو الأمانة التي تم تكليفه بحملها ليبدد ظلام الكون، قام وناضل وصال وجال ولم يخش أحدا، يعلمنا أيضا أن الثائر على ظلم لابد أن يلقى الصعاب وإن كان نبيا وأن يلقى الأذى وإن كان شريفا.

عندما نقرأ ما تعرض له الحبيب في سبيل نشر دعوته وإنجاح ثورته على الظلم والطغيان لابد أن نشعر بالخجل من أنفسنا، فبعد كل تضحياته نهمل في التمسك بتعاليم ديننا ؟ هذا الدين الذي راح فداه كثيرون، إننا الآن نطالب بحق شهداء ثورة يناير، وأنا أول المطالبين بحقهم، لكن أين حق شهداء أبطال سفكت دماؤهم وانهيت حياتهم على أيدي الكفار وقت نشر الدعوة؟ حق هؤلاء الشهداء أن نحافظ على ديننا ونقتدي بتعاليمه السمحة، وإن كنا ثوارا بحق فلابد أن يكون لنا في رسول الله قدوة حسنة، لقد أضره أهله أبلغ الضرر وتحمل، كان يأتي الناس في المواسم فيدعوهم إلى دين الله عز وجل ونبذ عبادة الأصنام وعمه أبو لهب من خلفه، يمشي وراءه ويقول للناس لا تطيعوه؛ فإنه صابئ كاذب، فماذا كان يفعل؟ يختبئ؟ يبتعد عن الناس إحساسا بالهوان؟ يشتم عمه أو يهينه أو يرد عليه؟ لم يفعل أي شيء من هذا، بل ترفع عن الهوان وذهب يدعو لرسالته غير عابئ بمن يحاول إعاقته، ولا ننسى بعد أن ضاقت عليه مكة فخرج إلى الطائف يطلب النصرة، فقد روى البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : "يوم العقبة أشد من يوم أحد فقد انطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال : يا محمد فقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"، هذه هي رحمة القائد وسعة فكره. لا ننسى أيضا ما حدث معه بالطائف ولا محاولات الاغتيال والأضرار التي اتخذها الكفار بحقه وهو صابر ثابت مؤمن برسالته معطينا درسا أن من حمل رسالة في عنقه فعليه أن يصبر ويواصل مهما كان الثمن، كان يرى أتباعه يتم تعذيبهم فيدمي فؤاده ما يحدث لهم ويواصل ويستمر،رأى بعيني رأسه الشريف عمه الحبيب إلى قلبه سيدنا حمزة «أسد الإسلام» يقتل ويمثل به أبشع تمثيل، بكى عليه كما لم يبك أحدا من قبل لكنه صبر واستمر في غزوة أحد، كسر نابه الشريف وجرح وأوذي أشد الأذى لكنه استمر، وكانت كل قطرة من دمائه الطاهرة تنبت عزا جديدا في أرض متعطشة للكرامة.

حبيبنا المصطفى كان ثائرا عظيما، وكان أيضا قائدا لثورة عظيمة، فعندما اشتد الأمر بمكة وذهب مهاجرا لم يذهب هاربا حاشا لله، لكنه ذهب رسولا داعيا. عامل الأنصار والمهاجرين على قدم المساواة وعلم الجميع الحب والإيثار، لم يكن ثائرا مخربا ولا ثائرا ضعيفا ولم يكن أيضا قائدا ظالما ولا متحيزا، ولنر معا لمحة من عدله وحكمته، ففي إحدى الغزوات التي انتصر فيها المسلمون على اليهود وزع الفيء على المهاجرين ولم يعط من الأنصار إلا فقيرا واحدا. وبدأ الحاقدون في نفث سموم الوقيعة بأن أوعزوا إلى الأنصار أن محمدا قد اختص أهله بالخير، فماذا كان منه؟ هل عّنف الأنصار وقال لهم افعلوا ما شئتم فأنا القائد؟ لا والله، بل جمعهم وقال لهم إنه ما فعل ذلك إلا رأفة بهم حيث المهاجرون قاسموهم أملاكهم وديارهم لأنهم جاءوا من بلادهم لا يملكون إلا ملابسهم على أجسادهم، وأنه رأى أن يعيد للأنصار أملاكهم بإعطاء المهاجرين هذا الفيء، وخيرهم أن يوزع الغنائم عليهم بالتساوي وأن يظل المهاجرون يقاسمونهم أشياءهم أو يختص المهاجرون بالغنائم ويتركون لهم ما يملكون، انظروا حكمة القائد، فهو يجمعهم حتى يفِّهمهم، ثم يخيرهم ويترك لهم الأمر، فقالوا بل ما تراه يا رسول الله، فهل انتهى الأمر؟ لا، لقد قال لهم ما جعلهم يبكون ويتأثرون بشدة، قال لهم: والله لو شئتم لقلتم جئتنا فقيرا فأعطيناك وجئتنا مكذبا فصدقناك وجئتنا مهاجرا فآويناك، ثم دعا لهم فقال: «اللهم بارك في الأنصار وفي أبنائهم وفي أبناء أبنائهم»، فابكي الجميع من شدة حدبه ورحمته.

هذه هي أخلاق الزعيم والقائد، أن يهتم برعيته وأنصاره، أن يجمعهم إذا التبس الأمر عليهم ويفهمهم، أن يشعرهم بمدى حبه وامتنانه لهم، أين هذا مما يحدث الآن؟

أين نحن منك يا سيدي يا رسول الله، يا من علمتنا أن الحق حق، والباطل باطل، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، يا من علمتنا أن المسلم القوي خير من المسلم الضعيف، وأن من مات دون ماله وأهله ووطنه فهو شهيد، يا من قلت إن خادم القوم سيدهم، وعلمتنا كيف يحترم الشعب حاكمه لو كان يحترم شعائر الله وكيف يرعى الحاكم شعبه لأن الله سائله لا محالة. يامن قلت إن دعوة الحاكم الصالح العادل ليس بينها وبين الله حجاب.

فهذا هو القائد الذي يعرف حقوق العباد ورب العباد، عندما شعر بدنو الأجل جمع الناس وقال" يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ مَالا فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا لا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: إِنِّي أَخْشَى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِي وَلا مِنْ شَأْنِي، أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ، أَلا وَإِنِّي لا أَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارًا».

أين نحن منك يا من على يديك تربى صحابتك الكرام فعلمونا من بعدك كيف تكون الحياة، فهذا أبو بكر الصديق عندما تولى الخلافة ماذا قال؟ قال : «قد وليّت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حق إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ماذا نقول عنك يا حبيب الله؟ ماذا نقول يا قرة عيني يا رسول الله عليك صلاة الله وسلامه، جعلنا الله ممن نال محبتك وورد حوضك الشريف وألهمنا في هذه الأيام المباركة تدارس سنتك وفهمها، إننا نحتاجك بشدة هذه الأيام حيث الضباب يلف القلوب قبل العيون وتتعذر معه الرؤية السليمة، أبناؤك يقتلون ويصلبون في بلاد كثيرة، الفتنة تستشري بين الأحباء، لكننا على العهد صامدون وإلى وجه ربنا الكريم متطلعون، وإلى نور حبك يا سيدي يا رسول الله متعطشون، أبناؤك يحتاجون بركتك يا حبيب فلا تبخل علينا بنظرة يا من جعلك الله رحمة للعالمين، وتقبل مني سلاما في يوم مولدك الشريف.

بسم الله الرحمن الرحيم"إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"

صدق الله العظيم

 

 

المصدر: مجلة حواء -ايمان حسن الحفناوي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 530 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,691,840

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز