دماؤنا الرخيصة

كتب :محمد الحمامصي

لا تزال مصر تبكي شهداءها الذين وقعوا ولا يزالون منذ 25 يناير 2011، ولا يزال الجناة يتمتعون بوافر الأمن والطمأنينة والصحة، فيما يتصارع الذين ركبوا على جثثهم على السلطة كأن شيئا لم يكن، وقد وفرنا لهم ـ والحق يقال بتخاذلنا وعدم صمودنا ـ كل ما يحتاجون إليه من وقت لكي يخططوا وينفذوا جرائمهم لإرهابنا وإرهاب أطفالنا وإهدار حقوق الوطن في الاستقرار وحقوقنا في العيش بكرامة وحرية.

ما حدث في بورسعيد ليلة الأربعاء 1 فبراير وراح ضحيته أطفال وشباب، سوف نحتاج لسنوات طوال حتى نعالج صدمته النفسية التي ضربت أمهات وآباء مصر، فدون مبالغة كنت أسمع أصوات البكاء حتى صباح اليوم التالي، وشخصيا لم أنم، فكلما أغمضت عيني انتابتني الهواجس، كيف لي أن أتخيل أن يقتل ما يقرب من 75 طفلا وشابا في أقل من نصف الساعة، لدرجة أنني حين نزلت من بيتي في السادسة صباحا، كنت أسأل كل من أعرف من أصحاب المحال التي تفتح باكرآً: هل تصدق أن يقتل 75 شخصا في أقل من نصف الساعة؟ أحدهم أجابني: لو الحي السكني الذي نعيش فيه ويقطنه عشرات الآلاف نزلوا للعراك مع بعضهم البعض لما وصل الرقم إلى هذا العدد في هذه المدة القصيرة، وأضاف: من لديه الخبرة ليرتكب هذه الجريمة في هذا الرقم القياسي؟.

فزعي وهواجسي على يقين أنها نفس فزع وهواجس أي أسرة مصرية، فكل أطفالنا وشبابنا مغرمون بكرة القدم، حتى لنجد في البيت الواحد من يشجع الزمالك ومن يشجع الأهلى ومن يشجع الإسماعيلي وغيرها من الأندية، ولنا أن نتخيل أن الأسرة المصرية تصورت أن أبناءها كانوا هناك وقتلوا ذبحا وخنقا ودهسا، أو أنهم معرضون لذلك في أي مباراة قادمة، خاصة أنها لن تستطيع إيقاف أبنائها عن متابعة وتشجيع أنديتهم مهما حذرتهم وهددتهم.

وإذا كانت الحادثة صدمة مّروعة، فإن ردود الفعل من البرلمان المصري وحزب الأغلبية كانت باردة برودة القتل الذي تم به فقدنا لـ 75 من شبابنا وأطفالنا، رغم الصراخ الذي علا في قاعة المجلس وزلزل أركانه، حيث وضح ميل حزب الأغلبية لعدم قبول إقالة الحكومة أو إدانة وزيرها للداخلية، ليرسخ الترويع وفقدان الثقة، لقد تم التعامل مع الحادث كما كان يتعامل الحزب الوطني المنحل مع دماء المصريين، ونذكر جميعا حادثة العبارة التي راح ضحيتها ما يزيد عن ألف مصري غرقا في عرض البحر، وحريق قطار الصعيد الذي راح ضحيته ما يزيد عن 400 مصري، ورد فعل الحزب الوطني المنحل!!.

أي مجلس شعب هذا الذي جاء به المصريون لكي يقيم العدل ويقتص من القتلة، فإذا به ينكص بوعوده، وينتهي اجتماعه الطارئ الذي تابعه كل المصريين بمجرد تشكيل لجنة تقصي يتغيب 6 من أعضائها، أي مجلس هذا الذي لا تحركه دماء الأطفال ودموع الأمهات الثكالى، أي مجلس هذا الذي يصبح دمية مع أول مواجهة حقيقية؟!

موقف مجلس الشعب ومن بعده موقف الحكومة الذي جاء دون المنتظر منه، ترتبت عليه أحداث وزارة الداخلية ومحاولات المتظاهرين الثائرين المفجوعين حزنا وألما على ما جرى لأصدقائهم في بورسعيد الوصول إلى مبنى الوزارة، واشتباكهم مع قوات الأمن المركزي، وتوسع الأمر حتى تم إغلاق منطقة شوارع قصر العيني ومحمد محمود والتحرير ونوبار بالأسلاك الشائكة والحوائط الأسمنتية.

خلال الأيام التي تلت الحادث سمعت وقرأت مئات الآراء، تتهم في أغلبها "الفلول"، و"الطرف الثالث"، أو "اللهو الخفي"، دون أن تشير أصابع الاتهام إلى أنه ربما يكون هناك صراع على السلطة بين أطراف هنا وهناك على الساحة السياسية على اختلاف قواها أو خارجها، وأن طرفا ـ وربما أطراف متحالفة ـ يضغط على الآخر ليهزه ومن ثم يستطيع زحزحته، وأنه يعتبر أن صراعه حربا، فلجأ لتكنيك تشتيت العدو، يضرب هنا وهناك مشتتا للانتباه، يسرق في المهندسين ويقتل في المرج ويذبح في المنيا ويقتحم أقسام الشرطة في المرج والتبين والدقهلية ويرتكب مجزرة في بورسعيد وهلم جرا، هذه الحركة الواسعة لا تتيح للأطراف الأخرى المنافسة مهلة اكتشافه ومن ثم تضعف وتهتز الثقة فيها لدى الشعب.

ليست مؤامرة خارجية ولا عمالة ولا أجندات ولا تمويل خارجي ولا غيره مما كثر الحديث عنه حتى ملّته الناس، إنها مؤامرة داخلية أصحابها يصارعون بل يقاتلون كأنهم في حرب حقيقية للاستيلاء على مصر، وما المصريون إلا دماء رخيصة يريقونها قربانا على مذبح السلطة 

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 471 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,698,468

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز