عناق الشيخ و المقدس
كتب :طاهر البهي
يحلو له أن يستعيد ذكريات الطفولة كلما سنحت له الظروف بالاختلاء بنفسه ، ليس بهدف اجترار الماضى ، ومن ثم التحسر عليه ، بعد المقارنة بين عصر وآخر ، ولا حتى البحث عن حلول للحاضر من دفتر التاريخ ، ولكنه كان يفعلها عشقا وانتماء ووفاء لزمن لا يخجل من الانتماء له شاء أم أبى ، فهو لا يستطيع أن يمنع ولد ولا صبية من مواليد العقدين الماضيين أن يناديانه بنداء التبجيل : يا عمو !
فى ليلة عيد القيامة المجيد الذى يحتفل به أقباط مصر ، انزوى فى ركن يفضله بغرفته ، وجلس يهتدى بضوء «أباجورة» لازمته لعدة سنوات من عمره للتعرف على أرقام هواتف أصدقائه وزملائه وجيرانه الأقباط ، ليلقى عليهم تهنئته بالأعياد ، وبعد أن فرغ من عادته التى لم يتخل عنها ابدا طوال سنوات عمره .. راح يتذكر :
فى نهاية الستينيات نشب خلاف مفاجئ ، لا يدرى لماذا كان يصنفه على أنه خلاف طريف ، حيث كان أطفالاً فى مثل سنه واكبر كمان يأتون إليه قاصدين اللعب بين نهريه نظرا لاتساعه ، الخلاف كان بين الاثنين : رجل معمم وآخر قبطى غير معمم ، على إسم الشارع - شارعه - وعلى الرغم من طرافة المشاجرة - والتى يشهد بأنه كان خلافا متحضرا لم يستخدم فيه عنف لفظى ولا مادى - إلا أن الأمر كان يمثل بالفعل مشكلة لكثير من السكان ، خاصة الذين تقتضى مصالحهم وجود عنوان دقيق ، مثل أولئك الذين يودون التقديم لأولادهم فى المدارس ، أو زملائه الذين يودون ملء استمارات الشهادات العامة ، أو استخراج أوراق رسمية مثل البطاقة الشخصية - قبل حلول الرقم القومى - فالشارع له إسمان ، واحد باسم الشيخ ، والآخر باسم عمه - كما كان يناديه - القبطى ، وأصبحت الناس فى حيرة .. وكل يختار ما يعجبه : شارع الشيخ .... أو شارع المقدس.
الغالبية - من مسلمين وأقباط - انحازت للمقدس ، لأنه كان رجلاً محبوبا ، كما أن اسمه سهلا ... بالنسبة له كان هناك سببا آخر لتفضيل الإسم القبطى ، هو أن ابن المقدس كان صديقا شخصيا مفضلا لديه ، على الرغم من أنه كان يصغره بعامين أو ثلاثة ، وكان يتمتع بخلق عظيم ، وازداد تعلقه به بعد وفاة والده المقدس الطيب ، ساعده فى ترتيب مقاعد المعزين ، واستمر وقوفه إلى جواره حت المساء ، عندما جاء القسيس ليعطى العظة من خلال مكبر الصوت ، وكان دوره هو توزيع الماء المغمور بقطع الثلج على المعزين ، ليطفئ نيران الصيف الملتهب - بالمناسبة كان الناس يقولون نفس الكلام المكرر فى سبعينيات القرن العشرين : «ده حر محصلش ده احنا قربنا من جو السودان الشقيق (الآن تم تغيير هذه الجملة بعبارة : احنا قربنا من جو الخليج الشقيق) ، أو أول مرة نشوف الجو .. ده .. ده مفيش نفس .. الرطوبة عالية قوى.. إيه الخنفة دى»!
المهم أنه تعاطفا مع صديقه قرر أن يكون إيجابيا ، فكتب على جدران المنازل - شوية منها - إسم الشارع منسوبا لوالد صديقه ، مما حرك الشيخ وطلب رأى جهات رسمية ، فهو يؤكد أنه صاحب حق وأنه أقدم من استوطن الشارع ، ولكن جاء الرد الرسمى القانونى يحمل اسما ثالثا - لا هذا ولا ذاك - وأمتثل الجميع لكتابة الاسم الجديد رغم ما به من صعوبة اخترعتها البيروقراطية.
وذات مساء خرج الشيخ الوقور مهرولا ، بين جيئة وذهاباً ، ولما استطلع السكان الأمر ، عرفوا أنه يبحث عن قطة صغيرة ، أنجبتها قطته الكبيرة .. كان الشيخ لا يتردد فى طرق الأبواب بحثا عن ذلك المخلوق المدلل دون جدوى.
بعد كر وفر ، ووسط تعاطف من الكثيرين ، ورغبة فى تذوق «الحلاوة» التى وعد الشيخ من يعثر على قطته بإغداقه الكثير منها ... فجأة جاء صديقه ابن المقدس يحمل القطة الصغيرة ، وفى يده الأخرى قطاره يسقى القطة عن طريقها شرابا طهورا من اللبن الطاهر.
وفى مشهد يتحدى صناع السينما المسلوقة ، فوجئ بالشيخ يحتضن الصبى ابن المقدس .. فاضت اعين الحاضرين من الدمع.
اطفأ نور الأباجورة ممتلئا بالرضا ، وتطابقت جفونه مستسلما لنوم عميق..
ساحة النقاش