الثعالب

كتب :محمد الحمامصي

هناك فارق كبير بين أن يكون المرء جاهلا وأن يكون أميا، فالجاهل قد يكون حاملاً لأعلى الشهادات الجامعية وشاغلاً لأهم وأبرز المناصب القيادية، لكنه لا يملك بصرا أو بصيرة ولا يسعى لامتلاكهما بالمعرفة والعلم والعمل، معتمدا في كل ما يحصّله على الدس والتآمر والطعن والكذب والنفاق، ولأننا عشنا ونعيش هذا الزمن الذي اختلت فيه كافة الموازين وغابت فيه القيم والمبادئ الأساسية، عشعش الجهلاء بكل ما يخزنون في صدورهم وعقولهم من غل وحقد ودناءة في كل مكان، فخربوا ويخربون كل منهاج ومسعى للتقويم والإصلاح والنهوض والبناء

 

 

.

الجهلاء هؤلاء هم مصيبتنا الكبرى، مصيبة مصر ومؤسساتها وهيئاتها على اختلافها، هم الكارثة التي أدت وستؤدي ـ ما لم يستبعدوا ـ إلى بقاء الوطن ـ دائما ـ على شفا حفرة من الهلاك

 

 

.

أراهم هنا وهناك يسعون بكل ما أوتوا من خراب وفساد ونقص عقلي إلى تدمير و"تفشيل" مساعي العمل والاستقرار والعطاء، يرتدون على أجسادهم ثياب الطيبة والسماحة والنصح والإرشاد، ويلونون وجوههم بمساحيق المكر والخديعة، ليفتنوا الشرفاء والبسطاء بالقول المسموم ويغروهم بالوقيعة ويحضوهم على الفتنة، وهنا أذكر قصيدة أمير الشعراء

 

 

:

برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين

 

يمشى في الأرض يهدى ويسب الماكرين

 

ويــــــقول الحمـــــد لله إلــــه العالمــــين

 

يا عبـــــاد الله توبوا فـهو كهف التـــائبين

 

وازهـــــدوا فإن العيش عيش الزاهـــدين

 

واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصـــبح فينا

 

فأتى الديك رسولا من إمـــــــام الناسكين

 

عرض الأمر عليه وهو يرجــو أن يلينا

 

فأجاب الديك عذرا يا أضـــل المــــــهتدين

 

بلغ الثعلب عني عن جدودي الصــــالحين

 

عن ذوى التيجان ممن دخلوا البطن اللعين

 

أنهم قالوا وخير القـــول قول العارفيــــن

 

مخطئ من ظـــن يومـــا أن للثــــعلب دينا

 

الأمي شخص آخر، لا يعرف القراءة والكتابة ولكنه قد يحمل قلبا كبيرا رحيما بصيرا محبا، لا يقايض على وطنه ومقدراته ولا أرضه ولا أهله ولا إخوانه، هو ليس ملاكاً ولا رسولاً ولا نبياً، لكنه إنسان بسيط حالت ظروف حياته دون تعليمه، فتعلم حرفة أو امتهن مهنة أو عمل بتجارة ليأكل ويعيش ويحفظ أسرته ويعلم أبناءه عزيزا كريما من عرق جبينه، هكذا كان أغلب جدودنا وجداتنا وآبائنا وأمهاتنا زمان، كانوا أميين لكن أصحاب رؤية وأسلوب في الحياة، يسعون للعمار والتعمير والنهضة والبناء، ويحافظون بكل ما أوتوا من قوة على مصر وصلاحها واستقرارها، لذا قدموا لمصر الأجيال الأعظم في تاريخها الحديث كله

 

 

.

لقد التقيت مثقفين ومسئولين وعلماء كبارا مشهودا لهم بالحكمة والعلم والمعرفة والانتماء لهذا الوطن العزيز، كان آباؤهم وأمهاتهم أميين، وشهدوا أنهم لم يحرصوا فقط على تعليمهم ليحصلوا على أعلى الدرجات العلمية ويتفوقون إبداعاً وقيادة، ولكنهم أضاءوا بصائرهم وبصيرتهم بالحكمة والموعظة الحسنة والحب والسلام والرحمة، فاجتمعت لهم المعرفة مع البصيرة، والعلم مع الحب، المنصب القيادي مع الحكمة، فتألقوا وكانت مصر بهم رائدة وقائدة

 

 

.

بالطبع لا ندعو للأمية ولا نشجع عليها، خاصة أن الزمن تغير وحدث في المجتمع ما لم يكن يمكن تخيله أو تصوره من تردٍ داخل منظومته القيمية، ولكن ننبه إلى أن الجهل ليس مجرد أمية، بل هو أخطر، وفي رأيي الخاص يمثل الجهل والجهلاء "قنبلة" لا تنتظر مفجرا ليفجرها لأنها انفجرت بالفعل، وهشمت كل ما طالته من أفكار ورؤى وقيم ومبادئ وأشخاص وأماكن، ليضيع الكثير من مكانتنا وهيبتنا كأفراد وكدولة، انفجرت "القنبلة" وسط إقصاء متعمد للعارفين القادرين على ردعهم وردع جرائمهم

 

 

.

الجهل الآن مفخرة وفشخرة وغرور وكبر وخيلاء، فقد اطمأن الجهلاء إلى أن ألاعيبهم وخوازيقهم وحرائقهم ونفاقاتهم وأكاذيبهم وقتلهم غير مكشوفة ولا أحد سوف يحاسبهم ويعاقبهم عليها، وأن الطلاءات التي يطلون بها ـ كل ما يقولونه ويفعلونه ويدسونه من مؤامرات ويرتكبونه من جرائم ـ استطاعت إخفاء الحقائق والتواريخ. لكني أقول لهم "إن غدا لناظره قريب"، قد يكون أغلب الشعب المصري موزعا بين الأمية والفقر والمرض، وأن محنة أو ابتلاء أمثالكم تنحر "وبره" وتشتت قواه، لكن يظل صاحب بصيرة لا تخيب كثيرا في أفكارها واختياراتها

 

 

 

 

 

المصدر: مجلة حواء- محمد الحمامصي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 652 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,813,201

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز