فين حقى يا بلد؟

كتبت : ايمان حسن الحفناوي

 شعاع تسلل إلى جفونه يذكره بأن يوماً جديداً قد جاء.. من زجاج النافذة المكسور ينفذ الشعاع يقتحم غفوة استثنائية حظي بها بعد ليل طويل قضاه في المستشفى مع أخيه، ينفض عنه الغطاء المهترئ استعداداً ليوم جديد لن يكون أكثر رحمة مما سبقه.. يعتدل جالساً على فرشته المتهالكة والتي لا ترحمه من برد شتاء ولا من قيظ صيف.. ينظر للنافذة المكسور زجاجها، منذ متى وأنا على هذه الحال؟ وإلى متى سأظل، يحتضن وجهه المرهق بين راحتيه، ويفيق على صوت أمه قادمة إلى الغرفة.. "قوم يا بني عشان تلحق شغلك ".. أي شغل هذا يا أمي؟ لكنه يقوم وكأنه إنسان آلي، فلابد من الذهاب للعمل، أمي وأخوتي الصغار ينتظرون الملاليم التي أحضرها لهم كل يوم، ولو تأخرت عن عملي لن يرحمني المقاول، سيأتي بغيري، ماذا أفعل يا ربي وقد زاد العبء بعد إصابة شقيقي؟ أصبحت مسئولاً عن زوجته وعيالهّ !!

 كوب من الشاي هو كل إفطاره وكسرة خبز ..

 في طريقه للعمل لا يمكنه أن يتوقف عن التفكير.. يستعيد المشهد المفزع كأنه يحدث الآن.

 كان يوماً عادياً وكان هو وشقيقه فرحين لأنه أخيراً تم اختيارهما للعمل في إنشاء إحدى البنايات في هذا الحي الراقي، شهور طويلة انقضت بلا عمل فلماذا لا يفرحان؟

 تم وضع الأساسات وأقيمت الأعمدة وبدأ البناء يظهر، كثيراً ما كان يجلس في فترة الراحة ويتخيل هذه الشقة أو تلك ويرسم بخياله سيناريو يعيش فيه، فيأخذه لدنيا أكبر من أحلامه، هنا سنضع المطبخ أنا ومن سأختارها، وفي هذا الركن سنجلب أفخر الأثاث، في هذه الصالة الرحبة سنضع المائدة الكبيرة وقسم الاستقبال، يعجبني الصالون الفخم الذي شاهدته أمس في المسلسل عندما كنت أجلس مع رفاقي على القهوة، سأحضر هنا في هذه الزاوية مثله، أما هذه الغرفة فستكون للصغار، سأنجب ولداً وبنتاً فقط، وسيذهبان للمدرسة، ولن أجعلهما يتركان تعليمهما كما حدث معي أنا وأخي.. ويفيق على صوت المقاول يصرخ فيه"أنت يا بني آدم، قوم فز على شغلك جاتكم القرف" ينتفض وكأن ثعبانا لدغه، يهرول، حتى الحلم لا يمكنه أن يكمله! في طريقه للسقالة يقابله شقيقه،"إيه يا بني؟ الراجل عمال ينادي عليك" ينظر له نظرة يفهمها شقيقه "يبقى كنت بتحلم... بطل بقى أحلامك وعيش في الواقع شوية".. يصدر إيماءة تطمئن شقيقه، لكنه بينه وبين نفسه يتحسر، أي واقع يا أغلى الناس تريدني أن أعيش فيه؟ الغرفة التي نعيش فيها أنا وأمك وثلاث شقيقات وشقيقان؟ أي واقع الذي يقول بأنني في الثالثة والعشرين ولا أستطيع أن أحلم كأي شاب طبيعي بفتاة تشاركني حياتي؟ أي واقع يقول بأنني أنا وأنت نضع القرش على القرش لننفق على كل هؤلاء مضافاً إليهم زوجتك وولداك؟ أي واقع يا ربي يقول إنني كنت متفوقاً في دراستي وكنت أحلم أن أصبح طبيباً، ثم تضطر أمي لإخراجي من المدرسة لأصبح مع شقيقي من ننفق على الأسرة بعدما توفي والدنا في حادث سير، كان يومها قادماً من السوق حيث يذهب كل يوم لبيع الخضراوات، صدمته سيارة وانطلقت كالصاروخ، وانتهى أمره وكأنه لم يكن لأخرج أنا وشقيقي من المدرسة ونعمل كعاملي بناء.. يا ربي رحمتك بنا.. كل ذلك كان يفكر فيه يومها عندما كان يستعد لصعود السقالة، فاليوم لابد من صب سقف الدور العاشر، أخوه جهز السقالة من الأمس واطمأن على قوتها ودق مساميرها جيدا، فهو بارع في هذه المسألة ومعروف للجميع، وهم بصعود السقالة إلا أن قدمه علقت بلوح خشبي فسقط أرضا، وبدلا من أن يهرع إليه مقاول الأنفار ليطمئن عليه عنّفه وصرخ في وجهه بأبشع الألفاظ وحرمه يومية اليوم، ليصعد شقيقه بدلاً منه ويقوم بالعمل، الجرح ينزف من قدمه ويشعر ببعض الآلام في صدره إثر السقوط، ولا أحد يهتم.. شقيقه يربت على ظهره وينظر له نظرة كلها الحنان.. لو لم تكن لي في هذه الحياة لهانت على يا أغلى الأحباء.. يصعد شقيقه وينتظر هو ربما يصفح عنه المقاول، وفجأة يسمع صرخة تشق صدره، وينظر لاتجاه الصوت ليرى بعينيه عمره كله يترنح أمامه، شقيقه يسقط من فوق السقالة، ها هو يتجه بسرعة البرق للأرض، الدنيا كلها تتوقف في هذه اللحظة، كفي يا أرض عن الدوران... لااااااااااااااااا.. ويسقط أمام عينيه، جثة هامدة مضرجة بالدماء.. صرخ؟ شق ملابسه؟ هذى بالكلمات؟ لا يعرف بالضبط ما فعل... كل ما تذكره أنه في المستشفى مع شقيقه، لم يمت، كسور في الرجلين وكسر في الحوض وكسر آخر في ضلع ضغط على الرئة لينزف دم الحبيب ولا يمكنه أن يفعل شيئا.

 جعلته هذه الحادثة البشعة يكتشف أنه ومن مثله لا يهتم بهم أحد، لا يحبهم أحد، المقاول كل ما فعله أن جاء وقدم مبلغاً صغيراً من المال وانصرف، والمستشفى يطلب ثمن الجبس والشاش، والإصابة بالغة بما يعني أنه لن يتمكن من العمل مرة أخرى، هذا إذا استمر في الحياة!

 اكتشف أنه لا حق له في أي شيء، لا دولة تسأل عنه ـ ولا جهاز يختص بمشكلته، ولا أحد يريد أن يلتفت إليه...

 هل هذا هو نصيبي فيك يا بلدي؟ هل هذا هو مصيري؟ أنا الذي أشيد هذه الأبنية بعرقي وألمي ليسكنها الآخرون، هم يسكنون وأنا يتم إلقائي في الشارع طعاماً للكلاب؟ أي عدل هذا؟

 اقرأوا هذه القصة مرة أخرى فهي واقعية وحقيقية وحدثت منذ يومين فقط، اقرأوا واعلموا أننا كلنا مسئولون عن هؤلاء الناس وأن هؤلاء الشرفاء الذين يقضون حياتهم في الكد والعمل الشاق ويحصلون مبالغ هزيلة، يقبلون المشقة والحياة الكدرة ويرمون بأحلامهم المشروعة في قمامة الأيام.. لا يسرقون ولا ينهبون، كل ما يريدونه مجرد حياة، أي حياة وليتهم يحققونها.. أين حقوق هؤلاء؟ من المسئول عن ضياعهم؟ كيف تسمح لنا ضمائرنا أن ننام في بيوت بنوها بعرقهم وهم جياع مظلومون؟ أين البيانات الكافية عنهم؟ لا توجد... أين مظلة التأمين التي تحميهم؟ لا توجد! أين مجلس الشعب منهم؟ إنها قضية مهمة جداً تتبناها "حواء" على مدار الأسابيع المقبلة إن شاء الله ولن نهدأ حتى نعرف أين حق هؤلاء؟

المصدر: مجلة حواء -ايمان حسن الحفناوي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 709 مشاهدة
نشرت فى 11 إبريل 2012 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,816,369

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز