إمرأة مجهولة

بقلم : محمد صفوت

ريشة: محمد سالم

ثمة سقطة إنسانية وإدارية لم يغفرها أهل قريتنا لعنتر نائب العمدة، أبى كان فى مقدمة اللائمين له لوما بلغ حد التعنيف، غضب الأهالى امتد حتى عم جميع قرى كفر موسى عمران، ولعله وصل إلى المسئولين فى مركز الزقازيق.

فى وقت الظهيرة من يوم صيفى حار لجأ بعض الصبية البالغين كعادتهم إلى تبريد أجسادهم فى مياه ترعة الصبابة المارة بقريتنا.

خلعوا جميع ملابسهم بما فيها تلك القطع الداخلية الصغيرة، تبادلوا نظرات فضول شبه مختلسة إلى ما كانت تستره تلك القطع الداخلية، بعضهم غطى ما انكشف منه بإحدى يديه وبعضهم الآخر لم يهتم ، انطلقت تعليقات مازحة وأخرى لاذعة من هذا وذاك، بعثت فيهم تيارا متواصلا من الضحكات الطائشة ظلت آثارها عالقة بشفاههم إلى أن غاصوا فى جوف الماء.

ترعة الصبابة تستمد ماءها من بحر (أبو) الأخضر، هكذا يسمى رغم أنه نهر كبير، يصب فيضا مستمرا من مائه العذب عبر بوابة تحكم حديدية فى تلك الترعة المتفرعة منه والعمودية عليه، المسماة ترعة الصبابة لأنها تصب ماءها بعد رحلة طولها حوالى عشرين كيلو مترا فى ترعة تل مفتاح الأصغر منها .

الهروب من حرارة الجو لم يكن هو الهدف الوحيد للصبية، فثمة علاقة غرام دائم بينهم وبين ماء الترعة يتجاوز الرغبة فى التبرد به إلى حب السباحة فيه وممارسة كل الألعاب المائية الممكنة، رغم تحذيرات أهاليهم المستمرة لهم وتخويفهم من الإصابة بمرض البلهارسيا، واحتمال التعرض لخطر الموت غرقا

تمر ترعة الصبابة بقرى كفر موسى عمران، وهذه تتوسطها قريتنا التى تدعى عزبة حسن عبداللطيف، نسبة إلى مؤسسها جدنا الرابع، وهى قرية صغيرة قليلة المعالم ، ترعة الصبابة تعد أبرز وأهم تلك المعالم،، فهى الأم للقرية وأهلها، وهى شريان حياتنا الدائم، تحتضننا فى محبة وحنان، وتمنحنا الخير والنماء، ماؤها ينساب متماوجا فى تيه ودلال أمام البيوت وعبر الحقول ، ومن خلال آلات الرى المختلفة يتدفق عذبا فراتاً فى المساقى والقنوات ، فيروى الأرض ويحيى الزرع.

فى تنافس شريف وسباق ودى قطع الصبية بضعة أشواط من السباحة الحرة فى مياه الترعة، مع وضد اتجاه سريان الأمواج .

فى نهاية السباق هللوا تكريما للفائز ورفعوه إلى أعلي وجعلوا من أكتافهم منصة له قفز من فوقها بطريقة بهلوانية وغاص تحت الماء .

بعد استراحة قصيرة غيروا نشاطهم إلى سباق من يغطس ويمكث أطول مدة ممكنة تحت الماء ، وتقديرا لزكريا الفائز منحوه حق اختيار اللعبة التالية، فاقترح عليهم أن يلعبوا الاستغماية ، تأكيدا لمهارته يغطس هو ويسرعوا هم بتغيير أماكن وقوفهم على أرضية قاع الترعة، مع بقاء رءوسهم فوق سطح الماء ، فإذا استطاع وهو غاطس تحت الماء أن يمسك بساق أحدهم يكون قد حقق الفوز لنفسه، ويتعين على الممسوك المغلوب أن يغطس ويستمر فى محاولة الإيقاع بأى صبى آخر وهكذا

ثمة وشائج عشق حميمة وقديمة تربط بين ترعة الصبابة وأهل القرية ، وآل حسن عبداللطيف .. الأبناء والأحفاد ونسائهم وأنعامهم، الرجال الكبار منهم يتطهرون فى مياه الترعة فجرا، أمام المصلى المقامة على الشاطئ فى طرف القرية ، حتي لا يضطر كل منهم إلى انتظار دوره أمام الحمام الوحيد فى مسجد القرية، وقد تفوته صلاة الفجر حاضرا.

كثيرا ما يتضاحكون قائلين :

- رحم الله الحاج حسن عبداللطيف الإقرناوى، جدنا الأكبر الذى بنى لنا هذا المسجد .

- ولكنه لم يفكر فى أن أحفاده سيكونون فى غاية النشاط والشقاوة هكدا .

- لم يكن يعلم أننا سنتناكح ونتناسل بهذه الكثرة ونحتاج إلى أكثر من حمام .

- الرجل فعل ما استطاع فى زمانه، وعلينا نحن أن نحول بعض دورات مياه المسجد إلى حمامات.

- أو نوسع المسجد .

- بل الأفضل أن نبنى مسجدا جديدا .

- إلى أن يتم ذلك فالترعة موجودة

- لولا وجودها لصرنا نستحم فى البيوت مثل الحريم !

- الحقيقة أن مرور ترعة الصبابة فى عزبتنا يعتبر من أكبر نعم الله علينا

ولعلهم يعتقدون أنهم أكبر من أن تصيبهم البلهارسيا، أو أنها قد أصابتهم فى صغرهم فعلا، ويظنون أن حالتهم لن تزداد سوءا !

تغامز الصبية واتفقوا فى صمت ، فتركوا عرض الترعة ولاذوا بشاطئيها على الجانبين، لكى يفشل زكريا رفيقهم الغاطس فى اصطياد أى واحد منهم، فيسخرون منه عندما يقب فوق سطح الماء مضطرا ليتنفس، ويحكمون عليه بأن يعود فيغطس من جديد، ويكرر المحاولة إلى أن يوفق فى الإمساك بأحدهم.

فى مياه ترعة الصبابة تغسل النسوة الملابس صباحا والأوانى عصرا، ويتسامرن وهن يفعلن ذلك فى الموردة، المعدة بميل تدريجى من الشاطئ أمام القرية مباشرة لكى تسمح بمثل هذه الأغراض، وتسمح أيضا للبنات الصبايا أن يردن الماء ويملأن منه جرارهن، بغض النظر عما يرده من حيوانات للشرب منه أو حتى الاستحمام فيه، فالاعتقاد السائد لدى معظم الأهالى أن ماء الترعة الجارى يطرد أى شئ يلوثه أولا بأول، ويكون صالحا باستمرارللاستعمال الآدمى، حتى لو مرت به جيفة حيوان نافق !

استمر زكريا غاطسا تحت الماء يفتش يمينا ويسارا تفتيشا أعمى، لأنه لا يستطيع أن يفتح عينيه فى الماء النيلية المحملة بالطين والطمى، وغيرهما من الطحالب والجسيمات العالقة، ولو استطاع أن يفعل لما أمكنه أن يرى أى شئ فى جوف الماء المعدوم الشفافية !

يحرك جسده ويديه ورجليه فى همة ونشاط، ويبحث هنا وهناك عسى أن يلمس أى ساق لأى رفيق له فيمسك به فورا.

أخيرا أمسك بساق آدمية تحت الماء، غير أنه لم يفرح باصطيادها، بل اندهش لكونها يابسة جامدة خالية من دفء الحياة !

توجس خيفة منها وحاول أن يتأكد من حقيقتها فوجدها فاقدة للمرونة تماما، وغير قادرة على إبداء أى مقاومة أو الإتيان بأى حركة هروبية كما هو المتوقع !

تمادى فى تحسس الساق وما فوقها فأصابه الذعر وتسارعت دقات قلبه، واندفع يشق الماء وهو يقفز إلى أعلى كالممسوس صارخا:

- غريق يا أولاد، الحقونى يا أولاد.

هرعوا إليه مأخوذين متسائلين :

- ماذا تقول ؟!

- لقد أمسكت بواحدة غريقة !

- غريقة ؟!

- غريقة فى ترعة الصبابة ؟

- أين هى ؟!

- تحت الماء .

- ولماذا لم تأت بها ؟!

- لعلك تخادعنا.

- العب غيرها !

- ألا ترون أننى مرعوب حقاً ؟!

لاحظوا أن الهلع يكسو وجهه الممتقع، وأن بدنه يرتعد وينتفض ، فانتابهم الخوف والفزع ، وقال أحدهم وهو يتخذ وضع الاستعداد للهرب :

- ربما تكون قد أمسكت بجنية من العالم السفلى .

- بل هى إنسية غريقة .

- وما الذى يجعلك متأكدا هكذا ؟!

- لو كانت جنية لأمكنها أن تصرعنى وتفلت من بين يدى .

- ولماذا قلت أنها غريقة ولم تقل أنه غريق ؟!

صمت مرتبكا قبل أن يتغلب على خجله ويقول :

- لقد لمست بعض مناطق جسدها لاستكشاف حقيقتها.

- يا ولد انت ..

- أكبيرة هى أم صغيرة؟

- بل كبيرة، امرأة ناضجة أو فتاة مكتملة الأنوثة .

- يا عينى ..

انطلق صفير مغرض من أفواه بعضهم، فأسكتهم زكريا بقوله :

- الموقف لا يحتمل المزاح، ينبغى أن نفكر فيما يجب علينا عمله.

ثمة امرأة مجهولة ليست من نساء القرية، أنهت مسيرة طويلة كانت تقوم بها على شاطئ الترعة، وتوقفت فى لهيب الشمس ترقب الصبية العراة بنظرات منكسرة، وتستمع إلى حوارهم اللافت باهتمام متحفز.

بدت المرأة الغريبة فى سن الشيخوخة رغم أنها لا تزال فى أوائل خريف عمرها، فى عز الحر وقفت مطرقة برأسها، متسربلة بملابس سوداء ومتشحة بأحزان غامضة، تحمل فى يدها لفافة متوسطة الحجم، ولا تهتم بتجفيف قطرات كثيرة تسيل على وجهها من العرق والدموع !

أوشكت أن تقول شيئا للصبية ، بيد أن أجنة كلماتها المحمولة فى رأسها ولدت فى حنجرتها وماتت بين شفتيها !

انتبه الصبية إلى وجودها المباغت، فسرت مويجات خجل خفيف متبادل بينهم وبينها، ازدادت نظراتها انكسارا، وتأكد كل منهم أن الماء يغمره إلى صدره ..

ظنوا أنها عابرة سبيل توقفت لتستريح من عناء مشوار طويل، واندهشوا لأنها لم تفكر فى الاحتماء من لهيب الشمس وقيظ الحر بالجلوس فى ظل شجرة التوت الموجودة على بعد خطوات منها !

أدركوا ما أدركته هى من أنها إذا جلست تحت الشجرة ، فلن يتاح لها أن ترى موقعهم فى الترعة، وتتابع حوارهم المتشابك، فهل هى مهتمة بإشباع فضولها المتابع لموضوع الغريقة أكثر من اهمامها بالجلوس المريح فى ظل الشجرة ؟!

عاد أحد الفتيان يسأل عن حال الغريقة :

- أهى بملابسها أم عارية ؟!

- خيبك الله، هى بملابسها طبعا، ولكنها ممزقة ومتآكلة !

فى غيظ وألم كزت المرأة المجهولة على أسنانها، وفى توتر وعصبية ضغطت بيدها على اللفافة التى تحملها، وعلى الرغم منها دقت صدرها وصرخت:

- آه يا قلب أمك !

شعرت أنها أخطأت فيما فعلت وقالت، وحتى لا يتكرر منها ذلك أسرعت وكتمت فمها بيدها الخالية .

فى إشفاق وأسى قال زكريا :

- تمزق ملابس الغريقة وتآكلها، وانتفاخ بطنها وتضخم جثتها، كلها أدلة قاطعة على أنها لقيت حتفها منذ أيام مضت، وجرفها تيار الماء مسافة طويلة حتى وصلت إلى هنا .

- فلماذا لم تقب وتطف على السطح بعد أن امتلأت مسامها وكل فراغات جثتها بالماء ؟!

- يوجد حجر ثقيل معلق بحبل فى عنقها !

- يعنى هى لم تغرق قضاء وقدرا ، ولا منتحرة، وإنما غرقت بفعل فاعل، مجرم أثيم ارتكب فى حقها تلك الجريمة اللا إنسانية !

لم تستطع المرأة المجهولة صبرا، صاحت بالفتيان غاضبة :

- أراكم تضيعون الوقت فى الكلام ولا تفعلون شيئا فى صالح الغريقة، يجب عليكم أن تخرجوا جثتها من تحت الماء ليتم دفنها، فإكرام الميت دفنه.

- هذا ما كنا سنفعله حالا، سنخرج الجثة ونستدعى أهالينا لعمل اللازم .

تعاون معظم الفتيان معا وأخرجوا جثة الغريقة، الحبل لايزال ملفوفا حول عنقها وقد نزعوا منه الحجر الثقيل، أرقدوها على فرشة من الحشائش النامية على الشاطئ، سبق أن اقتطفتها المرأة وجهزتها فى الظل، تحت شجرة التوت الكبيرة القريبة من الموردة .

بمجرد وضع الجثة تحت الشجرة ، وظهور لحم الغريقة للعيون من خلال بقايا ثوبها الهترئ ، انطلقت من فم المرأة المجهولة صرخة مدوية، لم تستطع التحكم فيها ولا فى دموعها التى فرت من عينيها ، فسألها زكريا فى استغراب وتعاطف:

- أتعرفين الغريقة يا خالة ؟!

أخذت وتلجلجت كثيرا قبل أن تقول - ليس من الضرورى أن أعرفها لكى أحزن عليها، فكل البشر أهل لبعضهم البعض.

ابتلعت ريقها بصعوبة وأردفت.

- ربنا أمر بالستر، ولقد شاء سبحانه أن أمر من هنا الآن ومعى هده الملاءة الجديدة .

>>>

وانكبت على الجثة تغطيها بالملاءة ودموعها تتساقط من عينيها !

أصداء الصراخ وجلبة الجدال بلغت أسماع معظم الأهالى فتوافدوا رجالاً ونساء ، وفى الوقت نفسه انطلق بعض الفتيان يهتفون فى أنحاء القرية :

- يا أهل البلد ، غريقة غريبة جاءت بها إلينا مياه الترعة ، جثتها تحت شجرة التوت تطلب الدفنة !

يتجمع الأهالى ويلتفون حول الجثة ، كل منهم يريد أن يلقى نظرة على وجه الغريقة ، والمرأة المجهولة تحاول أن تمنعهم قائلة :

- يا ناس حرام عليكم ، هذه حرمة وجثتها عورة ، ومن المحرم على أى رجل أن ينظر إليها !

اقتنع بعضهم بصحة منطق المرأة الذى أيدته وساندته كل النسوة الحاضرات ، بينما أصر بعضهم الآخر على موقفه ، واشتبكوا مع المرأة فى جدل طويل قائلين:

- رؤيتنا لوجهها واجبة وقد تكون فى صالحها ، فلربما تعرفنا عليها .

- وما الفرق ؟! .. لقد غرقت وماتت وانتهى أمرها ، وكان الله بسرها عليما

- قولى لنا أولاً ، من انت وما صلتك بالغريقة ؟!

- ربما أكون فاعلة خير ساقتنى العناية الإلهية إلى هنا، أما عن صلتى بالغريقة، المجهولة مثلى ، فيكفى أننى وهى من بنات حواء وآدم !

حضر عنتر نائب عمدة الكفر وشيخ البلد ، وخلفهم بعض الخفراء يتقدمهم شيخهم ، علموا بخبر الغريقة قبل مجيئهم من دوار العمدية، صابر الحلاق هرول إليهم ولخص لهم الواقعة وما يدور حولها من نقاش محتدم ، وأثناء اقترابهم من موقع المأساة تناهى إلى أسماعهم جانبا من الحوار الدائر ، فتجمعت واكتملت فى أذهانهم أهم تفاصيل الحكاية .

العمدة كما يدعوه أهل القرية تجاوزاً ، أشار إلى شيخ البلدة ، فأشار هذا بدوره إلى شيخ الخفراء ، الذى انحنى وكشف لهم عن وجه الغريقة ، ثم أعاد تغطيته بأمر العمدة بعد أن نظر ثلاثتهم إلى الوجه بإمعان ، دون أن يستطيع أى منهم التعرف على شخصية الغريقة !

فى ضيف بالغ أطلق العمدة زفيراً طويلاً من صدره ، وتمتم لنفسه متأففاً:

- سوء حظى أنا هو الذى جعل أولئك الأولاد الملاعين يعثرون على تلك الغريقة الساقطة فى قاع الترعة ، فيخرجونها ويرمونى بها كما لو كانت عملى الأسود ، فى حين أننى لدىّ من همومى الخاصة مايزيد عن قدرتى على التحمل ، ولست فى حاجة إلى ساقطة جديدة ومقتولة فى الوقت نفسه لأبتلى بها !

دارى مظاهر انفعالاته الدفينة الضاغطة ، والتفت إلى المرأة المهجولة قائلا :

- بلغنى ياسيدتى أنك تمانعين فى أن نرى وجه الغريقة .

- عفواً يا عمدة ، هذا الكلام لاينطبق عليك ، وإنما أنا قلته فقط لعامة الرجال .

- ولكن من المحتمل أن تكون الغريقة من إحدى قرى كفر موسى عمران ، لذا يجب التعرف على شخصيتها .

>>>

إذا أمكن ، حتى لا أتهم وأنا العمدة بأننى لا أعرف شيئا عن أحوال أهل الكفر !

- إذا كان لابد من كشف المستور فلندع تلك المهمة للنساء .

- حسناً ، كلامك معقول جداً ، ولقد ابتعد الرجال تلقائياً عن جثة الغريقة بعد إندفاعة الفضول الأولى ، ولن لماذاترفضين أن نتشرف بمعرفتك ، ولا تكشفين لنا عن سر إهتمامك بالغريقة ؟!

- أنا عابرة سبيل رق قلبى لكارثة الشابة الغريقة ، فهل لديكم اعتراض على ذلك؟!

- لا أبداً، نحن لن نحجر على مشاعرك الإنسانية ، وسوف نتعرف عليك لا محالة فى وقت لاحق، فاعتبرى نفسك فى ضيافتنا .

- أشرك ياعمدة ، وأرجو أن تأمر بدفن الجثة فى الحال ، ولا من شاف ولا من درى .

- ولا من شاف ولا من درى ، هكذا بكل بساطة ، وكأن شيئاً لم يكن ؟! .. إنها لفكرة عبقرية ..

- لم يبق سوى أن تأمر بالتنفيذ الفورى .

- ياسيدتى تنفيذ ما قلت مستحيل تماماً ، ومعناه أن أروح أنا فى ستين داهية !

- فماذا تريد أن تفعل إذن ؟!

-اشرح لها ياشيخ البلد..

- الإجراءات معروفة ياسيدتى ، لابد من إبلاغ مركز الزقازيق ، وسوف يترتب على ذلك حضور وكيل النيابة ومعاونه والتحقيق فى الحادث ، وحضور الطبيب الشرعى ومساعده لترشح الجثة ومعرفة أسباب الوفاة .. وأخيراً يصرح بالدفن !

- هى البنية بعد ما غرقت وماتت الله يرحمها ، ناقصة تشريح ؟!

- لامفر من ذلك !

- إذن فالغرق هو بداية الفضيحة وليس نهاية المأساة !

- والغرق أيضا فى المحاكمات والعقوبات سيكون مصير الجناة !

أحضر الخفراء بضعة مقاعد لم يجلس عليها أحد ، واستعاد العمدة ناصية الحوار قائلا للمرأة :

- لاشك أننا سنعرف الحقيقة الكاملة ، فقط أرجو أن تساعدينا فى التوصل إلى بعض المعلومات الأولية .- كيف ؟!

- نحن أمامنا الآن من الشواهد مايدل على وقوع أكثر من جريمة جنائية بشعة!

تأكيدا لوجوده قال شيخ الخفراء مقاطعاً :

- ترى أى القرى الواقعة على شاطىء ترعة الصبابة كانت مسرحاً لتلك الجرائم؟!

رد عليه شيخ البلد بقوله:

- ربما عزبة قورة أو عزبة أبوعمارة أو ..

>>>

استعراضا لذكائه قال العمدة :

- ولعلها أى قرية أخرى ليست واقعة على الصبابة ، ارتكبت فيها جريمة القتل خنقاً ، محواً للعار مثلا ، وللتمويه تم نقل الجثة إلى الترعة فى سواد الليل .

صمت لحظة ثم قال مستطرداً :

- ومن الجائز أيضا أن تكون الجثة قد ألقيت فى بحر أبوالأخضر ، وجرفها تيا الماء المتدفق عبر بوابة التحكم إلى ترعة الصبابة .

- كل شىء جائز .

رددها شيخ البلد ،وكان شيخ الخفراء قد تباعد قليلا عن دائرة الحوار ، مركزاً اهتمامه هو والخفراء فى المحافظة على النظام والهدوء.

تنحنح العمدة وقال للمرأة المجهولة :

- لقد انتهت النسوة مجموعة تلو أخرى من مشاهدة وجه الغريقة ، ولم تستطع أى منهن التعرف على شخصيتها ، فهل أنت متأكدة من عدم وجود أى معلومات لديك تفيدنا فى التحقيق ؟

- وهل نحن فى تحقيق الآن ؟!

- هذا هو مايجب أن يكون ، تمهيداً لعمل المحضر الرسمى الذى لابد فيه من سين وجيم .

- الله سبحانه هو الذى يعلم كل شىء عن هذه الغريقة .

مغيظاً غمغم فى نفسه :

يعنى أنت لاتريدين الإدلاء بأى معلومات قد تدينك ، رغم شكى فى وجود صلة قوية بينك ويبن الغريقة ، وربما لك علاقة بالجريمة أيضاً ، عموماً أنا سأعرف كيف أتصرف معك .

- دعينى أنعش ذاكرتك وأذكر لك استنتاجاتى ، وإذا أخطأت فإنى أتوقع منك التصحيح ، واشترك معنا ياشيخ البلد .

لم تنبس المرأة بأى كلمة، بينما قال شيخ البلد :

- تفضل ياعمدة .

- انتفاخ بطن الغريقة ليس دليلا على امتلائه بالماء وحسب ، إنما يشير أيضاً إلى وجود حمل غير مرغوب فيه أو غير معترف به !

من خلال دموعها تساءلت المرأة المجهولة :

- ماذا تقصد ياعمدة ؟!

- أنت تعلمين مسميات هذه الأمور التى تؤدى إلى حدوث الحمل سفاحاً ، مثل هتك العرض والاغتصاب ، والعشق الملتهب ، والخيانة الزوجية ..

- والحالة الأخيرة قد لاتكتشف مالم تفح رائحتها وينفضح سرها !

تمتم بها شيخ البلد كأنه يحدث نفسه ، ثم رفع صوته مؤيداً :

- استنتاجاتك صحيحة يا عمدة ، أنا متفق معك فى الرأى تماماً ، وطبعاً توجد صلة وثيقة بين ماذكرت والحبل الملفوف حول رقبة الغريقة .

- هذا شىء مؤكد ، وأغلب الظن أن الحبل قد استخدم فى خنقها وإزهاق روحها ، قبل استخدامه لتعليق الحجر الثقيل فى عنقها ، حتى لاتقب جثتها وتطفو بعد ثلاثة أيام من تغريقها كالمعتاد ، وإنما تظل غاطسة إلى أن يتآكل الحبل وينقطع ، بعيداً جداً عن مكان ارتكاب الجريمة ، ويكون السمك قد أكل الكثير من لحم الجثة !

لاذت المرأة بالصمت البالى ، وقال شيخ البلد :

- هذا هو التصور السليم للأحداث يا عمدة .

- ولكن ضيفتنا الفاضلة لم تقل رأيها .

- أنتما لم تتركا لى شيئاً أقوله ، وخصوصاً أنت يا عمدة .

- بل تركت لك ، على الأقل ، أمرين فى غاية الأهمية .

- وهما ..؟!

- تفسير مصادفة مرورك من هنا فى هذا التوقيت بالذات ، ومصادفة وجود الملاءة الجديدة معك واستخدامك الفوري لها فى تغطية جثة الغريقة .

- الحياة مليئة بالمصادفات يا عمدة.- أرجو ألا تجدين نفسك مضطره لتغيير أقوالك أمام النيابة .

- ألا يوجد أى بديل لموضوع النيابة هذا ؟!

- يوجد حل وحيد ومؤقت، ولو أنه قد يعرضنى للمساءلة .

- وذلك الحل هو .. ؟

- أن نعيد إلقاء جثة الغريقة فى مياه الترعة ..

- أعوذ بالله ، هكذا بدون أى رحمة ولا إنسانية ، نلقى بهـا ونتركها تغـرق لثانـى مرة ؟!

- هى غرقت وماتت من أول مرة ، وتغريق جثتها لثانى مرة لن يضرها بأى شكل من الأشكال .

ومادمنا لم نتعرف على شخصيتها ، فلنرح أنفسنا من وجع الدماغ ، ونترك الجثة تواجه مصيرها المشئوم نفسه عند بوابة ترعة تل مفتاح ، خارج حدود مسئوليتى عن كفر موسى عمران !

- أهذا هو كل مايهمك يا عمدة ؟!

سرت بين الأهالى همهمات استياء واستنكار ، بيد أنها تساقطت وتكسرت عند قدمى عنتر ،الذى استمد قوته فى لحظته تلك من اطمئنانه إلى غياب الأشخاص القادرين على معارضته ومنعه من الاستهانة بمشاعر الأهالى ، والاستهتار بواجبه الإدارى !

طفح غضب المرأة المجهولة على وجهها الحزين فحفر فى صفحته المزيد من التجاعيد .

>>>

والأخاديد !

أحست بالقهر والإحباط ولم تجد من يساندها فى موقفها فانهارت باكية بحرقة ، وبألفاظ مخنوقة بدموعها تساءلت :

- وعند بوابة ترعة تل مفتاح ، هل سيتم انتشال جثة الغريقة والتصريح بدفنها فوراً ؟!

مستحيل كما سبق ان وضحنا لك، فلابد من تطبيق الاجراءات نفسها

ضربت صدرها متفجعة وصرخت :

- أليس لتلك المصيبة من نهاية ؟!

صم عنتر أذنيه دونها وأصدر أمره للخفراء متخطياً شيخهم :

- حتى يكون تصرفنا بعيداً عن الحرام ، استروا الجثة بوضعها فى شوال كبير ، وعلقوا فى رقبتها حجراً ثقيلاً ، ودعوا الأولاد الذين انتشلوها من قبل يعيدون تغريقها فى الترعة ، ولا من شاف ولا من درى ، كأن شيئاً لم يكن !{

 

المصدر: مجلة حواء -محمد صفوت
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1531 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,466,722

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز