لسنوات طويلة اعتدت أن أخصص يوماً من أيام الأعياد للسياحة فى منطقة «وسط البلد» حيث أشعر أن وسط البلد، هى مصر المصغرة.. مصر الجميلة، مصر الزحام والحركة الدءوبة والسعى للرزق، وأيضاً إهدار قيمة الوقت، وأحياناً التعدى على حرية وكرامة المرأة، ومطاردتها بالتحرش اللفظى.

أيضاً فى وسط البلد توجد التجارة الرائجة، والترفيه البرئ من سينما ومسرح خصوصاً فى شارعى سليمان باشا وعماد الدين، وأشهر قاعاتها سينما ومسرح قصر النيل الذى تغنت من فوق خشبته سيدة الغناء العربى السيدة أم كلثوم، أما عماد الدين فقد شهد مباريات فنية تنافسية حامية الوطيس بين فرقتى الريحانى وعلى الكسار، وفى السياق أذكر أن الابن المخلص للفنان على الكسار، وهو الصديق ماجد الكسار الذى أرهق قلبه حتى استسلم للجراحات الدقيقة فيه بسبب إرهاق ذهنه وبدنه فى تجميع تراث والده خفيف الظل والروح، والذى أكد لى - ماجد- أنه مصرى صميم من أزقة حى السيدة زينب - رضى الله عنها- وليس صحيحاً أنه وافد من السودان الشقيق.

قال لى ماجد عن المنافسة بين فرقة والده فى المسرح الذى حمل اسمه فى شارع عماد الدين، وبين الكوميديان الكبير نجيب الريحانى وفرقته التى كانت تحتل مسرحاً قريباً من مسرح على الكسار، كانت منافسة بين «لون مصرى فى الكوميديا» يمثله الكسار، وآخر فرنسى ممصر فى أغلب الأحيان يمثله الريحانى وفرقته.

ما علينا؛ فهذا تاريخ وسمة لا يمكن إنكارهما على حى وسط البلد العريق، الذى يشتهر أيضاً باحتضانه للثقافة والمثقفين، فهو يضم أشهر مكتبات مصرية وعربية وأجنبية، من مدبولى والشروق إلى الكتاب اللبنانى والأنجلو، والكتاب الفرنسى، أما مقاهى المثقفين فهى مازالت تجتذب عدداً كبيراً منهم مثل أوديون والجريون وريش وعلى بابا وغيرهم، وقد كان من حسن حظى أننى تعرفت من خلال هذه المقاهى على عدد كبير من مثقفى ومبدعى مصر، فقد توطدت صداقتى مع كثيرين من خلال سهرات فنية وثقافية خالصة، كان من بينهم: سيد حجاب، على الحجار، الساحر الأسمر أحمد زكى، على سالم- قبل سفره الكارثة إلى إسرائيل- فنان الكاريكاتير رءوف عياد، السيناريست الكبير عبدالحى أديب، الفنان والصحفى فوزى الهوارى، الصحفى عمرو خفاجى، الفنان جلال نجل الفنان الكبير شفيق جلال، الكاتب المسرحى بهيج إسماعيل.

وفى سياق الخصوصية المميزة للحى العريق، فإنها كانت محط أنظار كبرى الشركات والوكلاء الأجانب، ولعل شارع الشواربى في قلب الحى العريق لا يمكن إغفال دوره فى أنه كان مقصد النساء والرجال الارستقراط حتى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين.

واستدراكا لأهمية وسط البلد التى كانت حاضنة لأبرز نجوم الفن، ففى أشهر أبنيتها «الإيموبيليا» التقيت الراحل الصديق المهندس نبيل نجل الفنان المتفرد محمد فوزى، كما اكتشفت هناك أن السيدة «هداية» أولى زوجات محمد فوزى والتى عاشت فى الظل لنصف قرن من الزمان، وأذكر أننى أبلغت أستاذى «رجاء النقاش» بهذا الاكتشاف وأنها تصر على ألا تتكلم أبداً، ثم وافقت بشروط رأيت أننى لن ألتزم بها، مما دعا الأستاذ رجاء لأن يرسل لها زميلاً مشاكساً هو الزميل «على محمود» نائب رئيس تحرير الكواكب السابق، وفى الإموبيليا أيضاً حاورت شيخ المخرجين الأستاذ «كمال الشيخ»، الذى يسكن فى عمارة المشاهير التى ضمت أيضاً: ماجدة الصباحى، ليلى مراد، أنور وجدى ونجيب الريحانى، وفى شارع قصر النيل استضافنى الفنان الرائد محمود رضا فى مكتبه الذى تزينه لوحات فوتوغرافية مبهرة التقطها بنفسه من أشهر عروض الفرقة، وعلمت منه من خلال مذكراته التى دونتها من حوارنا الذى امتد لعدة أيام، أن فرقة رضا العريقة للتراث والفولكلور الشعبى قد تأسست فى هذا المكان الذى يطل على ميدان مصطفى كامل، وأنه كان يحتفظ بصور أكثر من نادرة لمحيط وسط البلد زمان، وهو نفس ما قاله لى فنان الأوبرا المحترم حسن كامى الذى كان يمتلك معرضاً لبيع صور الفنانين المستشرقين، وقد اقتنيت منه شخصياً عدداً من اللوحات.

وفى السنوات الأخيرة تجولت كعادة لم تنقطع لعقود فى شوارع وسط البلد، وأفزعنى ما وجدت من فوضى الباعة الجائلين، الذين افترشوا نهر الطريق- خصوصاً سليمان باشا- إلا ما يسمح بمرور سيارة واحدة كل عشر دقائق أو أكثر، فيما ستاندات الباعة تحمل معروضات كثيفة ربما أكثر مما تضمه كبرى محلات وسط البلد.. الذى كان 

المصدر: مجلة حواء- طاهر البهي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,735,119

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز