هل ساندها أم قوض أحلامها ؟!
طلعت حرب وتحرير المرأة
كتب :محمود قتاية
يذكر التاريخ أن مؤسس مصر الحديثة طلعت حرب كان من أول المعارضين لقاسم أمين ولكنها كانت معارضة المحب المتطلع للبناء لا معارضة الهدم وإشفاء الغليل.
المدقق في أفعال الرجل يجد أنه ساند التغيير الذي دعا له محرر المرأة الأول لكنها مساندة ذات طابع يحافظ علي التقاليد ويرفع من دورها في مراقبة وترشيد هذا التغيير حتي لا ينحرف عن مساره
حين صدر كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين عام 1898 تبارى الكتاب وأهل الفكر والثقافة فى الكتابة وإبداء الرأى حول ما تضمنه الكتاب .. منهم المؤيد ومنهم المعارض لقضية تحرير المرأة.
كان من المعارضين لقاسم أمين - طلعت حرب - بكتيب أصدره عام 1900 تحت عنوان (تربية المرأة والحجاب) .. فقد قبض طلعت حرب ببداهة قوية على اعتراف من قاسم أمين (بأن المرأة الشرقية المسلمة تتمتع بمدى أوسع من حرية المرأة الغربية ، فإنها وهى زوجة تتمتع بكامل حقوقها المدنية ، ثم هى مكلفة شرعا وأهل للتصرفات التى تقتضيها إدارة أملاكها، وهذه الأهلية تابعة لحريتها الشخصية وسلطة الزوج ليست إلا سلطة معنوية بخلاف المرأة الفرنسية مثلا التى لا يمكنها أن تعمل عملا ما من هذه الأعمال إلا إذا رضى به سيدها والمسيطر عليها فى أعمالها ، ورخص لها بعمله ).
ونحن إذ نستعرض أحوال المرأة فى مصر فى ذلك التاريخ يتبين لنا الميراث السياسى والاجتماعى الذى كبلها وحجم حركة المرأة وأضعف من قدرتها للأخذ بأسباب النهضة والتقدم.
أول المعارضين
وظهر محمد طلعت حرب فى تلك الفترة التاريخية فهو من مواليد 25 نوفمبر 1867 ، كان عمره حين أصدر كتابه ثلاثة وثلاثين عاماً وكان يفكر فى نهضة اقتصادية بمشروع وطنى وهو إنشاء بنك مصر ، وكان ذا حساسية عالية من أى تغيير فى تقاليد الحياة الاجتماعية أو عادات المصريين أو لغتهم العربية أو حتى لباسهم لغطاء الرأس (الطربوش) فوقف فى صف المعارضين لدعوة قاسم أمين الذى تثقف فى فرنسا فى كتابه (تحرير المرأة) .. وتمسك بالطربوش غطاء لرؤوس المصريين من الرجال والإبقـاء على الحجاب للنساء.
كما حافظ على التقاليد والقيم الشرقية السائدة فى مصر من المأكل والمشرب والملبس.
تأثير النشأة
إن تمسك طلعت حرب بحجاب المرأة فى ذلك الوقت يرجع إلى ما قبع فى وجدانه من ميراث الحزب الوطنى القديم لمصطفى كامل ومحمد فريد واعتزاز هذا الحزب بالخلافة العثمانية.
كما أن تمسك طلعت حرب بحجاب المرأة يرجع إلى تأثير نشأته الدينية وحفظه للقرآن الكريم وهو صبى صغير فى حى الحسين إلى جانب أصول عن عائلته التى ترجع إلى قبيلة حرب التى كانت تعيش فى منطقة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة بالحجاز بقيمها البدوية العتيقة ..
ولكن..
وهنا لنا وقفة فإذا كان هذا هو طلعت حرب فإننا لا ينبغى لنا أن ننسى أنه كان رجل التخطيط للتقدم .. ورجل الإصرار المثابر .. الوطنى الخالص الذى لا يتنازل عن أى شىء يمس وطنيته حتى أنه -مثلا- رفض فى يوم من الأيام تناول الخشاف الذى يقدم لرواد السينما الصيفية التى أنشأها فى حديقة الأزبكية لأن الفاكهة التى صنع منها الخشاف مستوردة!
كما لا ينبغى لنا أن ننسى أنه كان المثقف الذى يجيد اللغة الفرنسية كتابة وحديثا ويزور أوروبا.
وأخيراً وبالتأمل فى حياة طلعت حرب .. سنجده الرجل الذى بدأ بنفسه فتعلم وعمل وثابر وتخلق بالخلق الحسن ليكون أسوة حسنة لأبناء مصر وبناتها فكان رجل الأفعال لا رجل الأقوال .. حقق حلم عمره بافتتاح بنك مصر .. وراح يشيد الفردوس الاقتصادى المفقود لمصر .. فى كل مجال حوله .. الطباعة ، النسيج ، الطيران ، السياحة ، النقل والملاحة ، مصايد الأسماك ، نسج الحرير ، المصنوعات المصرية ، عموم التأمينات ... إلخ
انقلاب
وكأنى بما فعله راح يمزق بأعماله الكتيب الصغير الذى عارض فيه كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة ) سنة 1900 فظل يطالب بتعليم بناتنا وفتح أبواب الرزق الحلال ليعمل إخوتنا وأخواتنا، وأنشأ مسرح الأزبكية وموله من ماله الخاص بثلاثين ألف جنيه ليدخله فنانونا وفناناتنا من الرعيل الأول للفن ويمثلون فيه روائع المسرح العالمى والمصرى ، وأنشأ مطبعة مصر وستوديو مصر وشركة مصر للتمثيل والسينما ، كما أنشأ أول سينما صيفية بحديقة الأزبكية .. ولعل تاريخ أم كلثوم وأسمهان وفاطمة اليوسف وعزيزة أمير خير شاهد على مساندة طلعت حرب لفنانات مصر ..!
دليل
لنتذكر يوماً طلبت فيه (هدى هانم شعراوى) زعيمة الاتحاد النسائى من طلعت حرب إقامة الاحتفال بالذكرى العشرين لرحيل قاسم أمين بمسرح الأزبكية الذى أسسه طلعت حرب فبادر الرجل دون تردد بالاستجابة .. ثم أخرج منديله ، ومسح عينيه المنداة بدمعه حزنا على صديق اختلف فكريا معه ذات يوم حول تحرير المرأة ورفع الحجاب عنها
ساحة النقاش