فى حب حواء
كتب :طاهر البهي
عندما انتقلت من مؤسسة روزاليوسف للعمل بمجلة «حواء»، كان القرار غاية فى الصعوبة، فقد كان ذلك يعنى العمل بالصحافة المتخصصة، وهى تجربة كانت غريبة علّى، كنت أقدر الانضمام إلى كتيبة «حواء» المتميزة، ولكن هذا يعنى فى الوقت نفسه العمل بنوع واحد من الصحافة، هى الصحافة النسائية، فلم يكن قد أنشأ فى «حواء» قسماً خاصاً بالفنون، وهو النوع الذى قادتنى الظروف إلى احترافه، على الرغم من أن كاتباًَ متميزاً مثل مفيد فوزى، كان يطلق علىّ «چوكر صباح الخير»، فقد كنت واحداً من فريق التحقيقات فى صباح الخير، وواحداً من محاوريها إلى جوار جيل الكبار العظام: ماجدة الجندى، نجلاء بدير، ناهد فريد، كريمة كمال، والكبير الدمث رشدى أبوالحسن، والعظيم أحمد هاشم الشريف، والمشاغب عبدالستار الطويلة، والصديق رشاد كامل، إضافة إلى أننى كنت أعمل مع نجوم المتابعة والنقد الفنى من محمود سعد، إلى عفاف على، إلى إيناس إبراهيم وكلهم كانوا نجوم هذا الفن ومن الذين يتمتعون بسيرة نظيفة فى الوسطين الصحفى والفنى، وفى الرياضة كانت مساهمتى ملموسة مع الصديق المهذب مشجع زملاءه محمد هيبه رئيس تحرير صباح الخير الحالى.
وكل الذين استشرتهم فى الأمر أشاروا بالتريث، باعتبار أن نشاطى فى «حواء» سوف يكون محدوداً وقاصراً على ما يخص أمر الجنس اللطيف، ولكن الذى حدث أن زميلتنا إقبال بركة التى اختيرت رئيسة لتحرير «حواء»، كانت ترى أن الأبواب سوف تكون مفتوحة على مصراعيها أمام محرر شاب طموح، مفعم بالنشاط مثل العبد لله، ومن دون الدخول فى تفاصيل كثيرة وجدتنى اقرأ أرشيف «حواء» منذ إطلالتها الرائدة على جمهور متعطش لهذا النوع من الصحافة التى لم تكن تعرفها المنطقة العربية، باستثناء محاولات مشرفة فتحت الطريق أمام الأخوين زيدان، ليمدا أيديهما إلى صحفية رائدة عملاقة هى أمينة هانم السعيد أول وأهم رئيس تحرير لـ«حواء» ولمثيلاتها من صحف المرأة فى المنطقة العربية.
التهمت مجلدات «حواء» منذ عددها الأول الصادر فى يناير من العام 1955، وحتى العدد الصادر يوم دخولى أحد مكاتبها، حيث وجدتنى أجلس على طرف مكتب الكاتب الصحفى عبدالله عفيفى، الذى استكملت مشواره فيما بعد فى الانغماس فى رسائل القراء ومشكلاتهم وهمومهم، وهى صدفة لم أتصورها إلا وأن أتذكر هذا المشوار الذى امتد لقرابة عقدين من الزمان!
فوجئت ودهشت وأنا أقلب مجلدات «حواء» بوصفى زائراً عابراً، سائحاً فى صفحاتها، دارساً لتاريخها، متعلماً من كتابها، فوجئت بهذا الكم من الكتاب المحترمين، العظام، ليس أولهم يوسف إدريس الذى انحنى أمام قامته الشامخة فى فن المسرحية والقصة القصيرة، إلى أستاذى الذى اعتبره واحداً من أبرز من علمونى وشاء القدر أن أكتب فيما بعد شهادات من اقتربوا منه فى العدد الخاص الذى أصدرناه فى صباح الخير لتأبينه، وأعنى به صاحب أكثر أساليب الكتابة سلاسة ونعومة وبساطة وعمقاً الأستاذ إحسان عبدالقدوس. ومن المفارقات أن «حواء» صدرت قبل صباح الخير بعام واحد. ثم أعادت اكتشاف واحداً من أهم من كتبوا عن المرأة على شاشة السينما وهو الكاتب الكبير أنور محمد، وتوقفت طويلاً أمام عظمة أمينة السعيد فى بابها الشهير «إسألونى»، وعمق تحليلاتها، وتفنيداتها لمشكلات قارئاتها، وقد كنت أعرف القليل عنها من قراء مخضرمين عاصروها، وكان معها أعظم مدير تحرير عرفته «حواء»، وقد استمعت إلى أساليبه الراقية المبتكرة فى التعامل مع «الموضوع» الصحفى، وهو الكاتب الكبير ربيع غيث.
اعترف أن انبهارى كان كبيراً، واحترامى كان ولا يزال بغير حدود، وزاد من محبتى ومعرفتى بتاريخ «حواء»، عندما سمحت لى أمينة هانم السعيد بالجلوس فى حضرتها فى مكتبها بالدور الأول من دار الهلال - كان ذلك فى ديسمبر 1994 - وقد فوجئت بها تنتزع منى قسماً ألا ينشر حوارى معها فى مجلة «حواء»، والآن رفع الحرج أن أقول إن قرارها ورغبتها كانت بسبب غضبها من الإطار التحريرى الذى انتهجته «حواء» فى ذلك الزمان.
ولكنى عرفت منها - وهذا ليس حنثاً بالقسم - أنها و«حواء» قد جاهدت لنفض التراب من فوق ثياب المرأة المصرية، وبث حالة من الأمل والتفاؤل نحو مستقبل أفضل يسوده التنوير والمساواة.
الرحلة طويلة قد يتسع العمر لتناولها مرة أخرى، ولكن كل تلك الشجون والبهجة بهذه الباقة التى شرفت بالعمل معها وجدتها تتناثر فى القلب والعقل، وأنا أتلقى توصية مجلس الشورى الموقر (لجنة الثقافة والسياحة والإعلام) بأنه يوصى بتحويل مطبوعة «حواء» العريقة (نحو ستة عقود من زمن التنوير) بأن تكون ملحقاً مع الشقيقة الكبرى «المصور» دون الالتفات إلى القيمة والتاريخ. القراء يريدون إستمرار المسيرة
ساحة النقاش