شهر رمضان.. شهر القرآن.. فيه ليلة هى خير من ألف شهر ينتظرها المسلمون فى العالم أجمع لكى ينالوا المغفرة والرحمة والفوز العظيم.. ولكن ما هو السر فى هذه الليلة.. فالحدث الخطير الذى حدث فيها ليس فى حياة قريش والعرب وحدهما ولكن فى حياة الإنسانية أجمع.. لقد تلقى محمد رسالة الوحي فى ليلة القدر واصطفاه الله تعالى خاتماً للنبيين "عليهم السلام "وبعثه فى الناس بشيراً ونذيراً، وكانت الرسالة إيذاناً بحياة جديدة شاقة كادحة وبداية لعهد ملأه الاضطهاد والأذى والجهاد ثم النصر.. لم يكن يدرى يقيناً كيف ومتى يكون المبعث المنتظر، ومن هنا كان لنزول الوحي على المصطفى "صلى الله عليه وسلم" وقع المفاجأة العنيفة التى جاوزت أبعاد التصور، كان منذ استقرت به الحياة فى رعاية الزوج الرءوم وأعفته ظروفه المادية من عناء الكفاح اليومى، قد أتيح له أن يستجيب لما فى نفسه من نزوع إلى التأمل وميل إلى التفكير المستغرق وهى نزعة ظهرت فيه واضحة منذ الصبا ووجدت فى ساعات فراغه - أيام رعيه للغنم - مجالاً رحباً ثم صرفه عنها كدح العيش لتعود فتظهر من جديد قوية أصيلة، كأنما هى فطرة فيه وكثيراً ما حامت تأملاته حول الكعبة، تلك التى صنعت تاريخ مكة وتاريخ أسرته بوجه خاص ووصلت ما بين أبيه" عبدالله" وإسماعيل جد العرب برباط وثيق نسجته يد الزمن طوال قرون لا عداد لها، فأحيت بحادث فداء "عبدالله" من الذبح ذكرى متناهية فى القدم لمشهد الذبيح الأول ابن إبراهيم، وما أن شارف الرسول الأربعون حتى كان قد ألف الخلوة فى غار "حراء" واستطاب رياضته الروحية التى يحس خلالها كأنما يدنو من الحقيقة الكبرى ويتجلى السر الأعظم وما كانت "خديجة" فى وقار سنها وجلال أمومتها لتضيق بهذه الخلوات التى تبعده عنها أحياناً أو تعكر عليه صفو تأملاته بالمعهود من فضول النساء، بل حاولت ما وسعها الجهد أن تحوطه بالرعاية والهدوء ما أقام فى البيت فإذا انطلق إلى "غار حراء" ظلت عيناها عليه من بعيد وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه. وعندما نزل عليه الوحي فى ليلة القدر وهو فى "غار حراء" انطلق يلتمس بيته فى غبش الفجر خائفاً شاحباً يرجف فؤاده حتى بلغ حجرة زوجه وذهب عنه الروع فحدثها فى صوت مرتجف عن كل ما كان ونفض لديها مخاوفه وقال "لقد خشيت على نفسي"، أتراه يهذي حالما أم به جنة؟ وضمته إلى صدرها وقد أثار مرآه أعمق عواطف الأمومة فِى قلبها وهتفت فى ثقة ويقين.. "الله يرعانا يا أبا القاسم" أبشر يا بن العم واثبت فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق هذا صوت "خديجة" العذب الواثق ينساب مع ضوء الفجر إلى فؤاده فيبث فيه الثقة والأمن والهدوء وأحسن الراحة والطمأنينة وهى تقوده فى رفق إلى فراشه، واستراحت عيناها عليه برهة وهو مستغرق فى نومه الهادئ المطمئن ورفرف عليه قلبها المليء بالحب والإيمان، ثم قامت واندفعت إلى الطريق الخالى إلى ابن عمها “ورقة بن نوفل”، وما كاد يصغى ورقة إلى ما تتحدث به حتى اهتز منفعلاً وتدفقت الحيوية فى بدنه الواهن فانتفض يقول فى حماسة “قدوس - قدوس والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى وعيسى وإنه لنبى هذه الأمة فقولي له فليثبت”، ولم تنتظر مزيداً من قوله ولم تستعد كلمة واحدة منه بل أسرعت إلى زوجها الحبيب تعجل إليه بالبشرى وتقف بجانبه وتنصره وتشد أزره وتعينه على احتمال أقسي ضروب الأذى والاضطهاد سنين عدداً.
ساحة النقاش