قــُبلة بالشمع الأحمر على جبين مصر

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

عظيمة في غضبها، في رضاها، في هدوئها وصخبها، حيرتني مصر وحيرني شعبها الذي ينطلق دائما فوق كل التوقعات، يثورون فتتصور أن البلد لن تهدأ، يركنون للصمت فتخال أن مصر ستغرق في بحر السكوت، يرقصون فتدرك أن الدنيا كلها باتت تعيش الفرح، ويبكون فتسقط الدموع تبلل أركان الكرة الأرضية، بلد عجيبة وشعب أعجب، احتار فيه الجميع، أنا أيضا احترت، وحيرتنا هذه هي نتاج إبداع هذا الشعب الفريد الذي تتبدل أحواله في لحظة بنفس العمق من النقيض إلى النقيض!

في الأسبوع الأسود الذي بدأت أحداثه في يوم 19 نوفمبر شعرت أن قلبي يشق الضلوع ويركض بعيدا عني، يلطم خديه لهفة وخوفا على بلدي، الكل شاركني نفس الخوف عندما رأينا بأعيننا شبابنا الجميل يكتب مذكرات كفاحه ونضاله على أرض مصر بدمائه الذكية..عشنا لحظات الرعب ونحن نأتي لأعمالنا ونخرج منها تحت دخان كثيف انطلق من قنابل مسيلة للدموع أصابت صدورنا وأعيننا بإعياء شديد، لكن ما أصاب القلب منها كان أقسى وأشد وطأة.. كلنا كنا نتساءل بهيستريا "وماذا بعد يا مصر؟".

على أعتاب الانتخابات لم يجرؤ أحدنا أن يحلم بصناديق تحتضن اختياره وأصبع يغمسه في سائل ملون ويعود به لبيته متباهيا، فقد اشترك في عرس الديمقراطية.. أي انتخابات والميادين ثائرة والقتلى يزدادون كل يوم والعنف مستمر؟ أين الأصوات التي ستصول في الصناديق وتجول وقد بُحّت هذه الأصوات في الشوارع وأصابها دخان القنابل بالإعياء؟ أي انتخابات؟ كاد الحلم يضيع، المجلس العسكري يؤكد أن الانتخابات ستقام في موعدها! كيف؟ كانت كلمة كيف هذه مجرد ترف فكري، فكلنا منشغلون بما يحدث في الشارع الذي ثار فجأة وفقد توازنه.

ثوب العرس تم إعداده ومصر عروس، لكن هل سيحضر أبناؤها ويباركون الحفل؟

وجاءت الإجابة عجيبة، ففي يوم الاثنين الماضي تحممت مصر بفجر الحرية ونثرت على جسدها الطاهر عطر الفرح، واستعدت للحفل الكبير، رغم كل ما كان بالأمس، جاء الأبناء، لم يتخلفوا، وكأن الأمس لم يكن، وكأن الدماء لم تتم إراقتها، كدت أطير فرحة وأنا أرى الإقبال العجيب على لجان الانتخابات،الكل نسي ما أصابه بالأمس، وقد يكون أجّل مشاعره الغاضبة قليلا ليشارك في أول خطوة تخرجنا من النفق المظلم.. لم أتمالك نفسي، ذهبت أستطلع ما حدث في بعض اللجان الانتخابية، سرني التواجد المبهر للقادمين يسبقهم الأمل ويسلحهم الإحساس بأن «البلد دي بلدنا».

في لجنة من اللجان في مدينة نصر رأيت أعدادا من النساء من مختلف المستويات الاجتماعية، اخترت منهن سيدة عجوز كانت تقف مع شاب صغير، هذه السيدة جاءت تنتخب لأن حفيدها أقنعها أن صوتها أمانة وأنها لابد أن تشارك، شقيق هذا الشاب وهو حفيدها أيضا كان من شهداء ثورة يناير، وقد اقتنعت تماما أن دم حفيدها لن يذهب هدرا وأن مشاركتها هي بمثابة زهرة تضعها على قبره لتؤكد له أن ما فعله لم يذهب هباء.. في دائرة اخرى بمنطقة السيدة زينب وجدت كثيرات أيضا، قالت لي إحداهن: أي خمسمائة جنيه التي أتينا من أجلها خوفا أن يقتصوها منا؟! لو جاءوا بيوتنا لن يجدوا خمسمائة مليم، نحن جئنا لهذا السبب، لأننا لا نملك شيئا،وعرفنا أننا لا نملك شيئا لأن الكبار سرقونا، وفهمنا أنهم سرقونا لأننا لم نشارك من قبل ونقول رأينا..

وفي لجنة أخرى بمصر الجديدة كان يجلس على كرسي متحرك وجاء ليدلي بصوته، قال لي: تعبنا سلبية وخنوعا، وجاء الوقت لنخرج، قالوا عنا سلبيين ونجلس في بيوتنا، الآن أدركنا أن لكل منا طريق، وكل الطرق لابد أن تلتقي في خط واحد، وهو مصلحة هذا الوطن، فمن خرجوا ليخلعوا نظاما أفسد البلاد قاموا بدورهم وكنا وقتها في بيوتنا، الآن جاء دورنا لنصدق على ما قاموا به بأن نشارك في أول ثمرة لنضالهم.

اكتشفت شيئا آخر ـ لا يقل أهمية أبدا ـ من حديثي مع كثيرين اكتشفت أن الأبناء استطاعوا أن يؤثروا على أمهاتهم بأن أخرجوهن من العلبة المطبخية، ليشاركن في بناء بلدهن، الشباب استطاعوا أن يُخرجوا للانتخابات من لم يخرج للميدان، لكن مع هذا الاكتشاف أدركت أن أمهات كثيرات تأثرن بآراء أبنائهن، بحيث أوعزوا -الأبناء- إليهن من يخترن، ومن لا يخترن. التيارات الإسلامية كان لها نصيب كبير في هذا المجال، فالابن يؤثر على أمه أن تذهب وتنتخب فلانا.. الأجمل أنني لاحظت أن هذا السلوك حفز من يريدون تقليص أي أغلبية للتيار الإسلامي، فهناك أبناء وأمهات أدركوا ضرورة النزول لعمل توازنات في الأصوات حتى لا يصبح هناك أغلبية لطرف على حساب باقي الأفراد.. أحسست أن هناك صحوة وأن الكل يشارك وجميل جدا أن يشارك الجميع بصرف النظر إلى من ينتمي ولمن سيعطي صوته لأن الهدف في النهاية مصر ولا هدف إلا مصر.

تحية إلى جيش مصر الذي تواجد بكثافة وحقق الانضباط والإحساس بالأمان في اللجان الانتخابية.

 تحية إلى كل مصري ومصرية ضحى بوقته وجهده وانتظر في طابور طويل يطلب قضمة من رغيف الحرية.

تحية لطابور التجمع الخامس الذي لقي إعجابا عالميا عندما عرضته القنوات الفضائية فقد وصل طوله لأمتار طويلة يعجز عن ملاحقتها النظر.

 بعض الأخطاء تم رصدها في لجان عديدة نرجو تدارك هذه الأخطاء في المراحل القادمة، من هذه الأخطاء البطاقة الدوارة وعدم فتح بعض اللجان والتأخر في فتح بعضها.

 كل انتخابات كنت أري الشمع الأحمر وهم يغلقون به الصناديق فأتصور أن هذا اللون ما هو إلا شال أحمر يستخدمونه في مصارعة ثيران... اليوم فقط رأيت الشمع الأحمر وكأنه قبلة بأحمر شفاه على جبين مصر

لا تخافوا من تزوير الانتخابات فقد قال لي رئيس إحدى اللجان إن أوراق الناخبين يتم ختمها بالختم الشخصي لرئيس اللجنة ويتم مراجعة كل ورقة أثناء الفرز.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 399 مشاهدة
نشرت فى 11 ديسمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,909,440

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز