العيش .. والحرية.. والعدالة الاجتماعية

كتب : محمد الحمامصي

الحياة تزداد مرارة وإحباطا ويأسا مع استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية والخضراوات والفاكهة وفواتير الكهرباء والمياه والغاز وغيرها، وتراجع الدخول وزيادة معدلات البطالة بين مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، نتيجة تردي الكثير من أوضاع القطاعات وفي مقدمتها قطاع السياحة والصناعة، الأمر الذي انعكس واضحا وجليا على الأسرة المصرية التي باتت تسير حياتها سيرا متخبطا ومضطربا مما أثر على نفسية أفرادها، لتزداد المشاحنات بين مسئوليها «الأب والأم»، وترتفع الأصوات مجلجلة ليلا ونهارا، أصوات تلوم وتعتب أحيانا، وتسب وتشتم أحيانا، وتهدد بالطلاق والهجر أحيانا أخرى، فيما تسمع نهنهات الأطفال وسط ضجيج العراك.

لقد صارت رحلتي اليومية إلى العمل رحلة مأساوية، من كثرة القصص والحكايات التي تصلني ممن يستقلون المترو أو الميكروباص، أو الأتوبيس، مرضى يقطعون مسافات طويلة من قراهم بحثا عن العلاج في مستشفيات القاهرة خاصة مستشفى قصر العيني، وذلك نتيجة عدم توفر الإمكانيات في مستشفيات مدنهم وقراهم، وباعة وبائعات متجولات قادمات من أرياف الجيزة والفيوم والقليوبية ضاقت بهم الحياة وأصابتهم مرارة الحاجة ولا يجدن سبيلا إلى الحياة إلا من خلال بيع المناديل الورقية والمكانس والأدوات المنزلية في شوارع القاهرة، وأخريات يبعن الجبن القريش والدجاج والبيض وغيره من المنتجات المنزلية في أسواق القاهرة، وغير ذلك الكثير من الفئات الاجتماعية الفقيرة.

على أية حال هذه بعض المشاهد تكشف إلى أي مدى وصل حال المصريين:

>> شدها من التونيك وصفعها على وجهها فاهتز جسدها الصغير وطفرت الدموع من عينيها وانتفض الرضيع بين يديها صارخا، كان ذلك في الإشارة الواقعة بين مستشفى أبو الريش وقصر العيني الفرنساوي، أي على مرأى ومسمع المارين في الشارع والناظرين من شبابيك سياراتهم الخاصة أو وسائل النقل العامة.

هو في عمر لا يتجاوز الثلاثين وهي في عمر لا يتجاوز العشرين، بعد تلقيها الصفعة هرولت باكية بينما هو خلفها يبرطم بالكلام، تأملت المشهد الذي أحزنني من شباك الأتوبيس، وتساءلت أي أخلاق هذه التي تدفع زوجين شابين بينهما طفل رضيع إلى هذا الموقف غير الأخلاقى؟.

>> كان قادما يتخبط كأعمى في حذائه المتآكل وقميصه الممزق وبنطلونه الذي يربط وسطه بقطعة قماش، على الرغم من أن عمره في تقديري لا يتجاوز 25 عاما، أي أنه في ريعان شبابه، خافت منه فتاة كانت تنتظر مثلي الميكروباص، وهربت إلى الخلف فزعة بمجرد اقتراب خطواته منها، وحين اقترب مني سألني سيجارة، نظرت إليه فوجدت علبة »الكولة« متخفية في بنطلونه، عرفت أنه يشم »الكولة«، فاقترحت عليه سندويتشا كانت أعدته لي زوجتي، بيضة مسلوقة في نصف رغيف بلدي، فأكد أنه يريد سيجارة، فقلت له مطمئنا إياه: تأكل السندويتش وأعطيك السيجارة، فوافق بعد أن طلب ماء، أخذ السندويتش وبدأ في التهامه، بينما ذهبت لأشتري له زجاجة مياه غازية، عدت إليه وبيدي الماء، أجلسته على حافة رصيف، أشعلت له سيجارة ووضعت له أخرى بجوار زجاجة الماء، ومضيت إلى حال سبيلى.

عندما وصل الأمر للحساب، صرخت متسائلة: البيضة بـ 90 قرشا؟ فرد البقال: زادت 15 قرشا منذ ثلاثة أيام؟ فتشت في جيوبها، ثم قالت: والله حرام الإفطار وسندويتشات المدرسة للأولاد تكلف خمسين جنيها.. كفاية ثلاث بيضات وبلاش الزبادي والجبنة الرومي؟ لم ينطق البقال، نفذ ما قالت وحصل على حسابه واتجه لزبون آخر، بينما مضت السيدة التي تبلغ من العمر ما يقارب الأربعين شاردة تحدث نفسها.

  أقسمت لي زميلتي أنها عرضت عليها أن تشتري ما يلزمها، فقد رأتها تتجول في محل الفاكهة والخضراوات والدموع تترقرق في عينيها، لكنها رفضت، وقالت زميلتي: كانت سيدة تتمتع بهيئة محترمة، ظلت تمر على الفواكه مرة والخضراوات مرات، تعبأ الكيس وتفرغه، وهي تحدث نفسها تارة وتفتح كيسها لتعد ما فيه تارة، اقتربت منها وحاولت الحديث معها، عرفت أنها ترى الأسعار مرتفعة جدا، وأن مقدرتها المادية لا تسمح لها بأن تشتري ما تحتاجه، عرضت عليها فرفضت بحزم، ثم خرجت جريا حرجا وخوفا من أن يستشعر أحد حولنا أمرها.

وأضافت : عرفت من صاحب المحل أنها تقطن بالجوار وأنها موظفة بشركة الكهرباء وزوجها موظف بوزارة العدل.

المشكلة أن هذا يحدث فيما نحن مشغولين بقضايا ختان البنات، وزواجهن بمجرد بلوغهن، وحلال الفن وحرامه، وصراع القوى السياسية، وهي قضايا ـ في رأيي ـ مفتعلة لكي تشغلنا عن قضايانا الحقيقية «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال العودة إلى الوراء، ولن يستطيع أحد مهما بلغت قوته أن يردنا للخلف والجاهلية والظلام، لابد أن ندرك أن الكثير مما يجرى مقصود به الانحراف بنا عن الأهداف الأساسية لتحقيق مجتمع العدالة، إنها لعبة مللناها، وعلى النخب أن تحذر منها وإلا ظللنا هكذا في تخبط لسنوات طويلة قادمة

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,809,330

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز