بقلم : طاهر البهى
فى صباح يوم شتوى ممطر استيقظ على صوت رنين هاتفه الخلوى، كان يتوقع ذلك الاتصال ويتوق إليه، لذا رأى أن يحتضن الهاتف ما تبقى من الليل بعد سهرة قضاها منفرداً مع صوت "ثومة" التى كانت تشدو رائعة الموسيقار بليغ حمدى والشاعر الرقيق مأمون الشناوى "بعيد عنك"، رغم أنه لم يتذوق مرارة الهجر قبل الآن بشكل مؤثر، إلا أنه شعر بكل معانى كلمات الأغنية المعبرة عن لوعة وحنين واشتياق المحبين، حاول أن يعرف سر تجاوبه مع تلك الأغنية، هل هو بسبب قراءاته الرومانسية أم بسبب تلك الأفلام الناعمة من زمن الأبيض والأسود التى كانت تكرس لمعانى الحب والخير وبقية مفردات تنمى شخصية الإنسان السوى.
تذكر الليلة السابقة التى جمعته بأسرة صديق له، أصر على أن يدعوه للاحتفال بعيد ميلاده الذى صادف نفس اليوم الذى لم يكن ليهتم به من قبل، وكان يراه يوماً يجمع الغيوم من كل شتات الأرض، وكثير ما كان يعتذر الأصدقاء عن مشاركته احتفاله البسيط فى شوارع مصر الجديدة البارونية الساحرة، كانوا ينسحبون من الاحتفال الذى لا يأتى بدعوى برودة الطقس والتى يصاحبها أحياناً سيل من المطر الثلجى الرعدى هكذا تعود فى عيد ميلاده، ولذلك ضعف كثيراً أمام دعوة صديقه الجديد للتعرف على أسرته المحبة للناس إلى هذا الحد.
فى حى تاريخى راق يقع منزل أسرة الصديق البشوش، المبتسم، المنزل أشبه بالقصر، فهو مكون من ثلاثة طوابق جميعها مخصصة للأسرة لا يشاركهم فيها مستأجر ولا مالك آخر، وكان هذا هو حال معظم بنايات ذلك الشارع المورق بخضرة الأشجار وبكل درجات اللون الأخضر.
شعر بارتياح شديد وإن صاحبته سرعة فى دقات القلب تزوره كلما أصبح فى حضرة الغرباء.
دق صاحبه جرس المنزل لينبئ من فى الداخل بأن معه ضيف، لم يستخدم مفتاحه الشخص، فتح نصف الباب ليكشف عن وجه فتاة لم تتعد العشرين من عمرها، ساحرة الجمال، جمال مصرى خالص لا تشوبه شائبه, الشعر الأصفر ولا العيون الملونة، عينان واسعتان سوداوان بلون الليل يتوسطهما ضوء كالقمر المنير، شعر منسدل فوق الكتف اليسرى كالحرير المنساب بغير قيود، وكأنها كانت على موعد معه رغم أنها لم يتعارفا من قبل، لا يدرى هو لماذا شعر أن الابتسامة تخطت حدود التعارف، فأصبحت وكأنها دعوة للحب، تأمل قميصها الفلكورى البدوى بألوان الطيف السبعة، زاد من إشراقتها وضاعف من إشراقة ابتسامتها، فردت ذراعها اليمنى تشير بها إلى بقية أفراد الأسرة الذين ما أن لمحوه حتى استقبلوه بالابتسامات والتصفيق الوقور، اندهش هو لهذا الاستقبال الودود على الرغم من أنه اللقاء الأول الذى يجمعه بهم، جاء التفسير على لسان فتاته ياسمين التى كشفت عن أنها تداوم على اقتناء الصحف التى تنشر قصصه، وأن جميع أفراد الأسرة يتبعونها فى قراءتها فيما بعد، واشتدت دهشته عندما علم أن ياسمين هى من علمت بأن اليوم يوافق ذكرى مولده، وأنها اتخذت زمام المبادرة لأن مشاركة مع الأسرة الاحتفال بالمناسبة سألته عن الأغنية التى يحبها حتى تستحضرها عبر محرك البحث الإلكترونى, جاءت إجابته دون تفكير مسبق - ربما لأن السؤال جاءه مباغتاً "بعيد عنك", عقبت ياسمين بعد أن خبت ابتسامتها: لكن دى أغنية هجر وفراق.. احنا عايزينك تفرح، وبابتسامة مصطنعة قالت بصوت يغرد له الطير: هو الأخ "مهجور" ولا حاجة؟
ضج الصالون بمن فيه بالضحك، وشاركهم بهجتهم ولكن بعد أن اخترق "كيوبيد" قلبه الحزين، فقد اكتشف فى نبرات صوت ياسمين ما لم يعرفه فى فتاة من قبلها، وهو الذى عرف العديد من البنات قبلها - رغم سنه الصغيرة - صوت يحرض على الحب، وجه يشع بالرومانسية والبهجة، يداعبه خصلة شعر حائرة كحيرة قلبه الذى لم يكن مستعداً - ولا متوقعا- أن يكون على أعتاب قصة حب على هذه الدرجة من النعومة، وتلك السهام المتلاحقة التى اخترقت قلبه المرهف شديد الرقة الذى عانى من مجرد سماع قصص الغدر التى تعرض لها أصدقاء له، كيف لهذه الفتاة شديدة العذوبة والرقة، أن تشعره بالذنب لأنه لم يبحث عنها قبل اليوم..
فاجأه صوت الحب.. صوت ثومة تشدو أغنيته المفضلة بعد أن استجابت ياسمين لطلبه وسط دمعة تساقطت من عينيه..
نسيت النوم وأحلامه .. نسيت لياليه وأيامه
بعيد عنك حياتى عذاب .. متبعدنيش بعيد عنك
مليش غير الدموع أحباب .. معاها بعيش بعيد عنك
كان الشاب وقحاً فى نظراته المتقاربة لعيون ياسمين دون أن يوجه مجرد نظرة لأحد أفراد الأسرة، وكانت الفتاة تستجيب لنظراته وتتمايل فى رقة مع كلمات الأغنية وصوت ثومة الشجي:
غلبنى الشوق وغلبنى .. وليله البعد دوبنى
ومهما السعد حيرنى .. ومهما الشوق سهرنى
لا طول بعدك يغيرنى .. ولا الأيام بتبعدنى
بعيد عنك.
من فرط تجاوبه مع المعنى وإحساسه بأنه أول عاشق يشعر بالاشتياق لمحبوبه، وهو يجلس أمامه،"محبوبه" ضبط نفسه وهو يصف ياسمين بهذا الوصف فى داخله، وهو الذى التقاها منذ دقائق ولم يتحدث إليها، وإن كان قد دار بينهما حوار القلوب، إنه يشعر بأنها قريبة منه مكانا وبعيدة إلى حد لا يوصف بسبب الأقارب والصديق المحيطين بها.. خشى من غيابها وخاف على قلبه من بعادها:
لا نوم ولا دمع فى عينيا .. ما خلاش الفراق فيا
نسيت النوم وأحلامه .. نسيت لياليه وأيامه
وبين الليل وآلامه .. وبين الخوف وأوهامه
بخاف عليك .. وبخاف تنسانى
والشوق إليك على طول صحانى.
كاد قلبه أن ينفطر خوفا من مرور الوقت، إنه لا يتصور أن يذهب الليل، أو حتى تشرق الشمس ويجد نفسه مطرودا من هذه الجنة التى يعيش بين نجومها وقمرها الآن، ثم يجد نفسه ملقى على سريره فلا تستطيع لمس أصابعها، ولا التكحل برموشها.. إنه سيفعل ما لم يفعله أحد قبله سوف يطلبها من والديها الآن.. نعم الآن.. بعد أقل من ساعة على اللقاء، إنه لن يدعها ترحل، لن يتركها تقرأ قصصه وحيدة، بل سيقرأها لها.. وسوف تكون هى بطلة كل قصصه، سيكتب مهتديا بنور عينيها وعلى إيقاع دقات قلبيهما.
الشوق.. آه من الشوق وعمايله..
فعلها وأصبحت خطيبته رسمياً.. وفى القريب العاجل سوف يجمعهما قصراً يبنيانه سويا يذهب الحب ولحن القلب، فلتهطل الأمطار وليتساقط الجليد، فالسهر أصبح له مذاق.
استيقظ على زغرودة من التليفون، على صوت ياسمين تقول له بصوت شديد النعومة "مبروك عليا...", فتأكد له أن ما يعيشه ليس حلماً بل حقيقة مبهجة.. لم ينطق بفعل الفرحة.. كنت بشتاقلك وأنت وأنا.. بينى وبينك خطوتين.. خطوتين
شوف بقينا فين يا قلبى.. يا حبيبي.. خطوتين.
ساحة النقاش