كتب : عادل دياب
يعشن معنا بأفكارهن وأعمالهن العظيمة، فلا ننسى أن المصرية كانت قديما ملكة متوجة بينما العالم يعيش في الكهوف، وظلت حديثا في المقدمة تسبق غيرها بخطوات. إنهن نساء رائدات نتذكرهن ونفخر بهن.
كان قدرا طلبها قبل أن تطلبه، أخفقت وبكت وتهربت، لكنها سرعان ما نجحت وتألقت وأصبحت أول امرأة في الإذاعة المصرية وفي إذاعات الشرق، وأم الإذاعيين صفية المهندس، قصتها مع الإذاعة غنية بالقيم والدروس والعبر، قصة تروي عن عصر كامل بقيمه وطبيعة أفراده، قصة تحكي عن أهمية البدايات وأهمية مساندة الموهوبين؛ اكتشافهم وتشجيعهم ومساعدتهم، وتحكي عن قيمة التسلح بالعلم والثقافة والأدوات المناسبة للتصدي لأي عمل.
برنامجها الأشهر “إلى ربات البيوت” ظل لسنوات طويلة مدرسة صباحية تحمل القيم والعلم والمتعة والتسلية والنصيحة، لكل امرأة حرصت على الاستماع للإذاعة، التاسعة والربع صباحا كل يوم، حيث كان الراديو المصدر الأول للثقافة والتسلية والمعرفة في أغلب البيوت المصرية، وحيث كانت ربات البيوت يستمعن للراديو أثناء أدائهن لأعمالهن في البيت، فيتعلمن عن المطبخ ووصفاته الجديدة من السيدة نظيرة نيقولا، ويتعلمن عن الحياة الاجتماعية والأسرية من نصائح السيدة صفية وحكايات “عيلة مرزوق” الحلقات الدرامية الهادفة التي كانت تقدمها كل يوم.
السيدة صفية زغلول التي رحلت عن عالمنا سنة 2007 تاركة وراءها إرثا إذاعيا عظيما، والمولودة عام 1922، هي ابنة اللغوي الكبير زكي المهندس، أستاذ اللغة العربية وعميد كلية دار العلوم ورئيس مجمع اللغة العربية، وواحد من الذين ساهموا في وضع مناهج اللغة العربية في عصره لصالح وزارة التربية والتعليم، إضافة لكونه واحدا من أوائل الذين أطلوا على الجمهور من خلال الإذاعة بحديث عن اللغة العربية، يبدأه دائما بعبارة “مستمعي الكرام” مشددا على الياء بصورة مميزة، أخوها الأستاذ الفنان القدير فؤاد المهندس، أما زوجها وأستاذها فالإذاعي القدير الرائد محمد محمود شعبان، المعروف بلقب “بابا شارو” أشهر من قدم برامج الأطفال، والذي كتب للإذاعة وقدم “ألف ليلة وليلة” وحكايات كتاب “الأغاني” وغيرها الكثير من الإنجازات الإذاعية التي يصعب حصرها.
كيف التحقت صفية المهندس بالإذاعة؟ هذه حكاية عجيبة، روتها بنفسها في تسجيل تليفزيوني نادر مع الفنان الأستاذ سمير صبري، حيث ذكرت أنها كانت طالبة في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، والتحقت بفريق التمثيل فأسندوا لها دورا صغيرا في السنة الأولى، وفوجئ المخرج بالنجاح والتصفيق الذي حصلت عليه، فأسند لها دور البطولة في إحدى روايات شكسبير، وكانت الكلية تعرض في يوم مخصص لها في دار الأوبرا، وكان مخصصا لوج للإذاعة ويحضر العرض الإذاعي الكبير عبدالوهاب يوسف وكروان الإذاعة المذيع محمد فتحي وآخرون.
أثناء العرض طرأت لهم فكرة، لماذا لا تنضم هذه الفتاة للإذاعة وتكون أول صوت نسائي في الإذاعة المصرية، التي ينقصها وجود صوت نسائي بها، لكنهم حين بحثوا عن الاسم المكتوب في المسرحية وجدوه صوفي زكي، فظنوا أنها أجنبية، وقالوا لو كانت هذه الفتاة مصرية لكانت مناسبة تماما.
ظلت صفية تقدم عرضا جديدا كل سنة، والإذاعيون يحضرون، حتى كانت السنة الرابعة، حين فجر لهم الإذاعي عبدالوهاب يوسف مفاجأة، فالفتاة مصرية واسمها صفية محمود زكي المهندس ووالدها عميد كلية دار العلوم ورئيس مجمع اللغة العربية، في ذلك اليوم اتصل بها الإذاعي محمد فتحي يطلب منها الذهاب للإذاعة، فاعتذرت لأنها مسافرة إلى الإسكندرية للمصيف، فاقترح عليها أن تتوجه إلى دار الإذاعة بالإسكندرية لتقابل الإذاعي محمد محمود شعبان، وهذا ما كان.
في الإسكندرية قدموا لها صحيفة الأهرام لتقرأ لهم، فاجتاحت كل قواعد النحو والصرف وكانت فضيحة لغوية على حد قولها، إذ لم تكن على مدار سنوات دراستها للغة الإنجليزية قد اهتمت بالعربية، رغم نشأتها في رحابها، وأخبرها الإذاعي الكبير أنهم سوف يتصلون بها، فانصرفت وهي على يقين أنها لن تصبح أول صوت نسائي في الإذاعة، علم والدها بما حدث فاعتبر الأمر عيبا في حقه، وقضى معها إجازة الصيف في استعادة وتعلم قواعد اللغة العربية دون إضاعة دقيقة واحدة.
عادت بعد ذلك للإذاعة وفي أول لقاء لها مع الميكروفون أخطأت في تقديم أغنية لمحمد عبد الوهاب، قائلة “أغنية من تأليف عزيز أباشا باظة” وحين أرادت إصلاح الخطأ كررته ثلاث مرات بسبب التوتر، فانهارت وبكت، لكن الإذاعي الكبير عبدالوهاب يوسف قال لها “معلهش، كلنا بنغلط” وطلب منها أن تستمر في التدريب والعمل، حتى مرت سنة ووجدت نفسها مسئولة عن تقديم الفقرة الصباحية بالكامل، لقد أصبحت مذيعة متمكنة صاحبة صوت شجي مميز، لكن يبدو أن حظها كان غريبا، فبعد أن قدمت أول فقرة جاء موعد تقديم القرآن الكريم، دخلت الاستديو فوجدت المقرئ جالسا مستعدا خالعا حذائه، أغلقت الباب فقال لها “هل تريدين شيئا يا ابنتي” أخبرته أنها ستقدمه للمستمعين، فما كان منه إلا أن هب صارخا متوعدا بصوت أفزعها وأمسك حذاءه ليرتديه فخافت وخرجت من الاستديو وخرج وراءها نصف حافي يصرخ ويتوعدها والعاملين في الإذاعة، فقد صدم الرجل عندما شاهد امرأة ستقدم التلاوة في الإذاعة ولم يكن ذلك قد حدث من قبل.
مرت الحادثة، وأصبحت تروى كطرفة، بعد أن تصرف مهندس الاستديو وأذاع تسجيلا قديما، وأكملت صفية مشوارها، وقد تملكها شعور وجاءتها النصيحة بأنها يجب أن تصبح أكثر إصرارا وقوة، لأن مستقبل المرأة في الإذاعة مرهون بأدائها.
وقد أصبحت صفية المهندس بالفعل خير ممثل لبدايات المرأة بالإذاعة، فقدمت برنامج “ركن المرأة” الذي أصبح فيما بعد أشهر برنامج للمرأة في الإذاعة بعنوان “إلى ربات البيوت” وأصبحت رئيسا للإذاعة المصرية، التي ظلت مخلصة لها مرتبطة بها إلى آخر يوم في حياتها.
ساحة النقاش