كتب: محمد الشريف
بعد عدة سنوات من العمل الشاق.. لم يسمع خلالها سوى صوت الآلات والمعدات ليل نهار.. تخرج العاصمة الإدارية الجديدة للنور وتستقبل موظفي عدد من الجهات الحكومية لتعلن عن بزوغ فجر جديد من الثورة الصناعية، وتضع مصر على خارطة المدن الصناعية، ولتمثل "درة التاج" للمدن الذكية، ونقلة حضارية ونوعية تعيد مصر إلى مكانتها وقيمتها، وهو ما صوره حافظ إبراهيم بقوله "أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق ودرته قلائد عقدى".
استلهمت تلك الفكرة من التجارب العالمية الناجحة في إعادة تأسيس عواصمها، حيث إن مصر ليست الدولة الأولى التي تفكر في نقل العاصمة، فعلى مدار الخمسين عاما الماضية أقدمت 13 دولة على مثل تلك الخطوة، وأثبتت تلك السياسة نجاحها في إعادة رسم البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدول، وتحويلها إلى مدن جديدة يمكنها أن تقود العالم.
كانت نقطة انطلاق مشروع العاصمة الإدارية خلال مؤتمر دعم الاقتصاد المصري في مارس 2015 حيث أعلن سيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي عن المشروع لمعالجة مشكلات الزحام والتكدس السكانى وسوء التخطيط وضعف البنية التحتية وتركز معظم المصالح والوزارات في منطقة وسط البلد الأمر الذى تسبب فى زيادة كثافة السكان في هذه المنطقة بشكل يصعب معه التعايش.
همزة وصل
تم اختيار موقع العاصمة لتتوسط القاهرة على بعد 45 كيلو من العاصمة الحالية، وقريبة من مدينة السويس ذات البعدين الاقتصادي والملاحي، حيث تحتضن أهم ممر ملاحي في العالم –قناة السويس - التى يعبر بها ما يقترب من 12% من حجم التجارة العالمية.
تبلغ مساحة العاصمة الجديدة 170 ألف فدان، قسم العمل خلالها إلى مراحل، تم تسليم نسبة كبيرة من مرحلتها الأولى لتضم العديد من المنشآت العالمية، وأحياء 9 كان من بينها الحيين السكنيين r3 وr5، واللذين أعلن رئيس الوزراء والرئيس التنفيذى للعاصمة عن انتقال آلاف الموظفين إليها، بجانب العديد من المنشآت الأخرى كدار الأوبرا ومسجد الفتاح العليم الذى يصدع فيه الآذان وتقام فيه الصلاة بعد افتتاح الرئيس له.
وللتأكيد على وحدة المصريين وحرية المعتقد فقد ضمت العاصمة كاتدرائية ميلاد المسيح لتصبح الكنيسة الأكبر بالشرق الأوسط، حيث تقام على مساحة 63 ألف متر مربع، وتعد تحفة فنية بما تزخر به من أيقونات ولوحات قبطية مستوحاة من الكتاب المقدس، وتتكون الكاتدرائية من دورين وتتسع لحوالي 8 آلاف فرد، وتحتوي على ساحة رئيسية، إضافة إلى مبنى المقر البابوي وصالة استقبال وقاعة اجتماعات ومكاتب إدارية.
حياة جديدة
منذ الإعلان عن إنشاء عاصمة إدارية جديدة عام 2015 كان الموظف ينظر إليها باعتبارها تلك المدينة البعيدة ذات المباني الشاهقة في الصحراء، والتي ربما لن يعيش طويلا ليراها مكتملة كحال غيرها من محاولات الحكومات السابقة إنشاء مدن وعواصم جديدة لكنها لم تر النور، لكنه اليوم يشد الرحال إليها يوميا فهي مقر عمله الجديد.
رحب الموظفون في الوزارات بالانتقال إلى العاصمة الجديدة مع بدء العمل الفعلي للدفعة الأولى من موظفي الحكومة في المقرات الجديدة، كما رحبوا بالانتقال للعيش في مدينة حدائق العاصمة القريبة من مقر عملهم الجديد لحين استلام الوحدات السكنية التي تم تخصيصها لهم قريبا، لكنهم رغم ذلك التزموا بالذهاب منذ اليوم الأول بما أتيح لهم من وسائل مواصلات.
الوحدات السكنية التى تطرحها الحكومة للموظفين العاملين بالعاصمة جعلت منها فرصة جيدة لبدء حياة جديدة دون أعباء مالية كبيرة، فالموظف سيحصل على وحدة سكنية قيمتها نحو نصف مليون جنيه وسيدفع منها حوالي 200 ألف جنيه فقط بينما تدعم الدولة باقي المبلغ.
مدينة بلا مستندات
المقار الحكومية الجديدة لن تستقبل مواطنين عاديين لإتمام مصالح أو خدمات خاصة بهم في المرحلة الحالية إلا في حالات نادرة ستحددها الهيئات، وذلك وفق تصريحات المهندس خالد عباس والذى أكد أن العاصمة صممت لتكون مدينة عصرية ذكية وإلكترونية بالكامل بلا مستندات ورقية، لذا لن تكون هناك حاجة لذهاب المواطنين إلى العاصمة لإتمام أي خدمات باعتبار أن الحكومة أتاحت معظم خدماتها للجمهور عبر الانترنت "أونلاين" منذ سنوات بما يزيد على 140 خدمة حيوية.
100 ألف مواطن بالعاصمة
خمسون ألف هو عدد الموظفين الذين انتقلوا إلى العمل بالعاصمة الإدارية الجديدة وفق تصريحات د. مصطفى مدبولى، رئيس الحكومة الذى أعرب عن فخره واعتزازه بنجاح نقل الموظفين إلى مقار عملهم بالحي الحكومي بالعاصمة الجديدة، وذلك بعد تقديم حزمة حوافز لهم تنوعت بين الاختيار بين بدل انتقال نقدي يصرف شهريا، أو الحصول على وحدة سكنية في حي زهرة العاصمة بمدينة بدر، أو بالحي السكني R3 بالعاصمة، بجانب الدعم المقدم للموظف والمتمثل في تخفيض قيمة اشتراكه في نادي النادي بنسبة٥٠٪.
نجح الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فى الانتهاء من تسكين المرحلة الأولى لإسكان الموظفين، بواقع ما يقرب من 10 آلاف وحدة سكنية بحي زهرة العاصمة بمدينة بدر الملاصقة للعاصمة، وسيتم تسليم المرحلتين الثانية والثالثة خلال الأشهر المقبلة، أما R3 فهو أول حي سكني تم إنشاؤه في العاصمة الإدارية الجديدة، ويضم أكثر من 24 ألف وحدة سكنية، بمختلف المستويات، تم بيعها بالكامل تقريبا، وإذا تم اعتبار أن متوسط عدد أفراد الأسرة المقيمة في الوحدة الواحدة يبلغ نحو 4 أفراد، فذلك يعني أن حوالي 100 ألف مواطن مصري سيستقرون بذلك الحي.
وبعد اكتمال البنيان وتحقق الحلم وأصبح لكل وزارة مقر، دبت الحياة فى العاصمة لتستقبل آلاف الموظفين يوميا، فضلا عرض نواب الشعب مطالبهم من تحت قبة مقر المجلس الجديد الذى شهد أداء الرئيس قسمه للفترة الرئاسية الجديدة لترفع مصر شعار "هنا العاصمة الجديدة".
مواصفات عالمية
لم تقتصر العاصمة الجديدة على مقار الوزارات والهيئات الحكومية فحسب، بل روعي في تصميمها الجوانب الثقافية والاجتماعية لتكون بحق مدينة متكاملة تضم معالم بارزة ثقافية وترفيهية، فمتحف العاصمة هو أحد العلامات البارزة بالعاصمة والذى تعمل وزارة السياحة والآثار على الانتهاء منه ليقدم لرواده تاريخ العواصم المصرية، ويتكون من: قاعة رئيسية يعرض فيها آثار لعدد من عواصم مصر القديمة والحديثة، والبالغ عددها 9 عواصم، ومجموعة من المقتنيات المختلفة التى تمثل أنماط الحياة فى كل حقبة تاريخية خاصة بكل عاصمة على حدة، وجناح يمثل العالم الآخر عند المصرى القديم، ويتكون هذا الجزء من مقبرة توتو، بالإضافة إلى قاعة مومياوات، وتوابيت، وفتارين تحتوى على الأوانى الكانوبية، ومجموعة من الأبواب الوهمية ورءوس بديلة تحاكى الطقوس الدينية فى مصر القديمة، وقطع أثرية من مختلف العصور المصرية القديمة والقبطية والإسلامية.
جودة الحياة
لإضفاء جمال الطبيعة والبهجة على مشروعات العاصمة نفذت وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية مشروع الحدائق المركزية التي تخترق جميع الإنشاءات والمشروعات التي يتم تنفيذها بالعاصمة، وتعد المرحلة الأولى للحدائق المركزية - والتي يبلغ طولها أكثر من عشرة كيلو مترات وبمساحة تقترب من الألف فدان - أحد أكبر الحدائق المركزية بالشرق الأوسط وثاني أكبر حديقة علي مستوي العالم، ليبلغ نصيب الفرد من المسطحات الخضراء والمفتوحة أعلى من المعايير العالمية لجودة الحياة، وذلك بوجود 15متر مربع لكل فرد.
كما يعد النهر الأخضر أحد أهم المعالم البارزة في العاصمة، وهو حديقة تتوسط المدينة بطول 53 كيلو مترا، ويربط جميع الأحياء ببعضها محاكاة لنهر النيل، ويتم تنفيذ المرحلة الأولى منه بطول 21 كم، يتراوح عرضه بين 533م و2333م، وتتوزع عليه كافة الأنشطة الترفيهية والثقافية والتجارية والرياضية التي تخدم إقليم القاهرة الكبرى.
مسلة عصرية
بالعاصمة الإدارية يوجد البرج الأيقوني والذى يعد أطول برج في القارة الأفريقية حيث يصل ارتفاعه إلي 400 متر، وتم تصميمه ليصبح مثالا رائعا علي العمارة ذات المستوي العالمي داخل المدينة، ويقع البرج الأيقوني في قلب العاصمة الإدارية وتم الوصول إلي تسعة وأربعين طابقا، ويتبقى منه ثلاثون طابقا آخر جار العمل علي الانتهاء منها، ليمثل واحدا من 20 مشروعا من الأبراج بمنطقة المال والأعمال، وتم اقتباس الشكل العام والخارجي للبرج من الحضارة المصرية القديمة، وظهر ذلك في بعض الزخارف وأبعاد البرج وتصميمه.
منارة الثقافة والمعرفة
تضم العاصمة حيين أحدهما سكنى والآخر حكومى، حيث أقيم الأخير على حوالى 920 فدانا وجزءا منه حي الوزارات الذى يضم رئاسة مجلس الوزراء و34 وزارة مختلفة، وتعد وزارة الأوقاف أول الوزارات التى نقلت مقار عملها إلى العاصمة ليكون لها السبق فى ذلك، بالإضافة إلى مبنى البرلمان ومجلس الشيوخ، أما المساحة السكنية فتمثل حوالى 67% من مساحة المشروع، وتتضمن نحو 285 ألف وحدة سكنية لمحدودى الدخل و185 ألف وحدة سكنية لذوى الدخل المتوسط، و15 ألف وحدة سكنية للطبقات الأعلى دخلا، بحيث تستوعب نحو 6.5 مليون نسمة بعد اكتمال المشروع، بالإضافة الى المدينة الثقافية التى تبلغ مساحتها 127 فدانا، وتعد منارة للثقافة والفن، وتضم مكتبة ضخمة تحوى بداخلها أكثر من 20 ألف كتاب بما فيها كتاب وصف مصر.
كما تحوى العاصمة مدينة ذكية تم إنشاؤها على ما يقرب من 300 فدان، وهى مدينة متخصصة فى العلوم والمعرفة يتم تأسيسها بنظام المدن المغلقة، لتضم مراكز للأبحاث والعلوم والابتكار وريادة الأعمال والسوفت وير وتطبيقات الكمبيوتر وغيرها.
المدينة الأولمبية
هي جزء مهم من العاصمة، وقد تم تنفيذها بهدف دعم المجال الرياضي في مصر، واستقبال البطولات الدولية والفعاليات المهمة على الأراضي المصرية، وتضم المدينة عددا من الأندية الرياضية الشهيرة والكبرى وفروعا لبعض أندية مصر الشهيرة، بجانب مجمع ملاعب كرة قدم وتنس واسكواش وكرة طائرة وسلة، كما تضم مجمع حمامات سباحة، وصالة للألعاب القتالية، وأخرى للرياضيين من متحدي الإعاقة، وصالة جمباز، وغرف تغيير ملابس.
ويعد ستاد مصر بالعاصمة من معالمها البارزة، حيث خطف أنظار العالم خلال حفل افتتاحه فى مارس الماضى، قبل استضافته لمباراة منتخبى مصر ونيوزيلاندا، ضمن البطولة الدولية الودية "كأس عاصمة مصر"، كما يعد أكبر ستاد من حيث السعة الجماهيرية فى مصر والثانى على مستوى القارة الأفريقية بعد ستاد البنك الوطني الأول في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، حيث يتسع ستاد مصر لـ90 ألف متفرج.
الأرقام تتحدث
منذ إعلان الدولة عن إنشاء العاصمة بثت المواقع التابعة لقوى الظلام سمومها بين المصريين مستهدفة ثقتهم بقيادتهم، مرددة عبارات من قبيل "راحت فلوسكم يا مصريين، السيسي بيرمى فلوس المصريين فى الصحراء"، إلا أن واقع العاصمة الجديدة رد على كل حاقد وجاهل بعد أن تحقق الحلم وأصبحت واقعا ملموسا يدير من خلالها رئيس الجمهورية شئون البلاد.
وفى إطار تفنيد الأكاذيب والرد على المغرضين خرج المهندس خالد عباس، رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية يؤكد أن "العاصمة" ومشروعاتها لم تحمل موازنة الدولة أى أموال، لافتا إلى أنها عبارة عن شركة حققت استثمارات كبري، حيث تضم حوالى 500 مشروعا، وأشار إلى أن الشركة حققت 27 مليار جنيه أرباح قبل خصم الضرائب فى 2023 بزيادة 35% عن 2022، وحتى 30 سبتمبر 2023 حققت أرباحا قبل خصم الضرائب تُقَدر بـ 20 مليار جنيه، وأنها تستهدف خلال 2024 تحقيق نفس مستوى الأرباح والنتائج الإيجابية الجيدة، مشيرا إلى أن العاصمة حققت إيرادات خلال 2023 بنحو 95 مليار جنيه، وبلغت إيرادات الشركة منذ انطلاقها من بيع 18 ألف فدان بالمرحلة الأولى نحو 250 مليار جنيه، ويتبقى لها 5 آلاف فدان سيتم طرحها، كما حققت العاصمة خلال 2023 العديد من النتائج الإيجابية التى انعكست على تحقيق أعلى مستوى من الأرباح والإيرادات والنمو فى معدلات الإنجاز فى المشروعات المنفذة، وهو الأمر الذى ساهم فى رفع القيمة المضافة للمدينة وجذب المزيد من الاستثمارات إليها.
ساحة النقاش