أعتقد أن الحياة تحبني .. وفي المقابل أعشقها، وربما كان هذا الاعتقاد هو السبب في أنني لم أدرك يوما أنني سأصبح عنوانا لحكاية تحدٍ مع مرض يخشي الناس مجرد النطق بحروفه، لكنني بعون الله ومشيئته سأنتصر عليه وأهزمه بشجاعة تفوق تصوري أنا شخصيا» .. كلمات صادقة وردت علي لسان رغدة ابراهيم.. سيدة شابة في العقد الثالث من عمرها.. تتمتع بقدر عال من الجمال .. متزوجة من مهندس شاب بعد قصة حب، وهي الآن أم لطفلين جميلين : «ابتسام» - 10 سنوات و«كريم» - 7 سنوات

ولعله القدر الذى فاجأها بإصابتها بسرطان الثدى فى أشد لحظات حياتها طمأنينة وربما سعادة أيضا.. هو الذى دفعنى لنشر حكايتها خاصة بعد مالمسته لديها من شجاعة وابتسامة لم تفارق شفتيها .

تقول رغدة : لا أنكر أننى اقتربت من اليأس، لكن سرعان ما قاومته بإصرار المرأة التى لم تفقد إيمانها وثقتها برحمة الله سبحانه وتعالى ، وربما هى الصدمات تعيد دائما تشكيل وعينا ومداركنا وتضع لنا خطوط دفاع نقف وراءها بكل مافى جوارحنا من لهفة لاستقبال يوم آخر نرجوه أن يأتى بلون أحلامنا غير المحدودة - عادة - طالما هناك قلب ينبض بالحياة.. تلك الأفكار الملونة بأقواس قزح وضعتنى فى مواجهة حقيقية مع واقع جديد يشكل أكبر تحدٍ فى حياتى بدأ مع شهر نوفمبر من عام 2009 عندما تحسست فى صدرى مايشبه «حبة العنب الصغيرة» فذهبت إلى طبيبة صديقة، فطمأنتنى أن المسألة بسيطة قائلة: «متخافيش .. مفيش حاجة وحشة» .

شظايا قنبلة

هدأت قليلا لمدة أربعة أشهر تقريبا.. حينما التقيت صدفة بوالدة زميلة ابنتى فى المدرسة وحكت لى عن إصابتها بسرطان الثدى وتعرضها لعملية جراحية، ونصحتنى بعدم الهدوء وضرورة متابعة حالتى مع طبيب متخصص .. ذهبت إليه وبعد الكشف والفحص سألنى : ما الذى جعلك تهدئين كل هذه الشهور الأربعة والأمر لا يستدعى الهدوء إطلاقا؟! ساورنى القلق فذهبت مع زوجى إلى طبيبة أخرى لتأكيد ما قاله زميلها أو نفيه، فقلبت حياتى رأساً على عقب .. كان ذلك فى الحادى عشر من شهر مايو 2010 .. هذا التاريخ سيظل محفورا فى ذاكرتى لأننى وقفت فيه أمام مشاعر الألم والقلق والخوف، حين قالت الطبيبة : غدا تدخلين غرفة العمليات، أردت مناقشتها فى تأخير الجراحة لعدة أيام قليلة، لم تمنحنى الفرصة لأستكمل مبررات ما أريده.. قالت بحسم: «اليوم الواحد يفرق معاك كتير» .. شعرت كأنها قذفت بوجهى قنبلة تناثرت شظاياها فى كل أنحاء جسدى وعقلى رغم أنها لم تؤكد لى إصابتى بذلك المرض اللعين لكن ذلك هو ما سيتم تبينه خلال العملية الجراحية .

كلما تبادر إلى ذهنى هو ماذا سأقول لطفلى ؟ وكيف سأخبر أمى وأبى دون أن يتسبب لهما الخبر فى صدمة بشعة تؤثر على صحتهما ؟ اجتاحتنى مشاعر متناقضة ومختلطة مابين اليأس والأمل.. والتحدى والاستسلام، لا أدرى كم استغرق هذا التخبط ، وإن كنت أعلن أنه لم يطل كثيرا فسرعان ما تمالكت نفسى وقررت المواجهة .

من النافذة

خرجت من غرفة العمليات وبداخلى رغبة دفينة فى أن تبشرنى الطبيبة بأن الأمر انتهى عند هذا الحد .. كنت أريد أن أسمع من كل الذين زارنى عبارة «حمد الله على السلامة» .. لكنهم كانوا يقولون لى : «حمدا لله على السلامة وربنا يتم شفاك بخير» فتيقنت أن الرياح لم تأت بما اشتهيته، وعلمت أننى سأكون بعد 21 يوما من الجراحة إلى العلاج بالكيماوى والاشعاع. من نافذة منزلى تطلعت إلى السماء وناجيت الله بقلب راضٍ ومستسلم لقضائه .. خاطبته : «ارتضيت قضاءك فالطف بى وامنحنى العون والقوة» ، لم أكن خائفة على نفسى ولكن على أسرتى الجميلة .. من سيتحمل مسئولية أبنائى طوال فترة جلسات الكيماوى القاسى المرير ، أما شعرى الجميل وما سيحدث له من سقوط كلى فلا أدرى من أين انتابنى ذلك الإحساس الجارف بالقوة والتحدى .. فكنت كمن يأخذ ثأره من عدوه، أردت أن أثبت لمرضى كم أنا شجاعة وأجعله يرانى وأنا أقص شعرى بنفسى وليس هو الذى يحرمنى منه .. أيها السرطان لقد فقدت شعرى بإرادتى وبيدى .. أنا ربحت التحدى وهزمت قوتك حين لم أدعها تسيطر علىّ .

سر قوتي

الجلسة الأولى للكيماوى كانت هى الأسوأ بالنسبة لى .. شىء غريب أشعر به يقتحم كل شعيراتى الدموية .. يسرى رغم أنفى فى كل أطرافى ووجهى لكن يمكننى تحمله، أما الأكثر إزعاجا فهو ما بعد الجلسة بـ ساعات .. غثيان وفقدان شهية وارهاق وطعم مر فى كل ما أتناوله من طعام وشراب مع قىء مستمر ورائحة غير لطيفة فى كل مايحيط بى .. حتى البارفان والصابون ، وتستمر هذه الأعراض لمدة 10 أيام كاملة أشعر بعدها بالتحسن قليلا مع قابلية لتناول طعام خفيف وهضمه وأعود إلى حالتى شبه الطبيعية مع اليوم الـ 15 .. الذى هو نفس موعد الجلسة الثانية للكيماوى البشع.. وهكذا أدور فى هذه الدائرة المزعجة بكل أعراضها المحبطة، ومع ذلك لم أفكر لحظة فى اعتزال الحياة.. حافظت على تواصلى مع الناس وكنت فى ذلك استغل طاقتى استغلالا صحيحا أياً كانت سعتها .

ورغم أنه لم يكن يخطر ببالى أبدا أننى سأذهب يوما لشراء باروكة لأى سبب من الأسباب وأنا التى طالما أحببت شعرى وشكرت الله كثيرا على أنه وهبنى شعرا ناعما طويلا، فقد اشتريت باروكة لأرتديها داخل منزلى حتى لا أؤذى مشاعر زوجى وأبنائى تجاهى ، أما خارج المنزل فقد بذلت قصارى جهدى أن أظل على نفس أناقتى المعهودة.. أحاول اخفاء تساقط رموش وشعر الحاجبين بوسائل التجميل المختلفة .

لم أكن أدرك فى البداية سر تلك القوة التى أواجه بها المرض، ربما هو الإيمان.. بل هو الإيمان فعلا والرضا بالمقسوم وحسن الظن بالله تعالى وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها .

زوجى وأبنائي

إلى جانب إيمانى يأتى ذلك الدعم المعنوى الكبير الذى احتضننى به زوجى الحبيب وابنتى الجميلة ابتسام وابنى الغالى كريم، كانوا جميعا يراعون حالتى الواهنة وجسدى الضعيف بعد جلسة العلاج الكيماوى ، زوجى تحمل كل مسئولياتى وأعبائى الأسرية وكان يعد لى بنفسه طعام الإفطار والغداء حبة قلبى الصغيرة تحاول قدر استطاعتها القيام بأداء ما تقدر عليه من أعمال منزلية ، وصغيرى العزيز يقلل من شقاوته ولعبه ويطيعنى فورا عندما أطلب منه تنظيف حجرته ، أما أبى وأمى واخوتى وصديقاتى فلم يتركنى أى منهم .. الكل يقدم ويعطى ولا يبخل بوقت أو مجهود .. لهذا أقول لكل من دعمنى ووثق بقدراتى وصمودى أنه سيأتى يوم قريب يشهد فيه ثمار دعمه وثقته.

انطلاق

انتهت جلسات العلاج الكيماوى ودخل فى مرحلة الاشعاع التى كانت وطئاً على نفسى وصحتى .. بدأت أستعيد شعرى ونضارة وجهى ونشاطى ، وتواصلت جلسات الاشعاع اليومى لمدة شهر كامل ليأتى اليوم الأخير الذى أودع فيه ستة أشهر من المرض .. فى هذا اليوم شعرت باللهفة إلى الجرى والانطلاق .. أود أن احتضن الحياة وأضمها إلى صدرى الذى لم يعد مريضا وأدعو الله ألا أعود إلى هذه الحالة مرة أخرى ، كما أدعو بالشفاء لكل سيدة وفتاة وطفل ورجل عانى ويعانى من السرطان .

 

 

المصدر: أمل مبروك - مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,688,186

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز