كان صلى الله عليه وسلم كثير الصمت قليل الكلام

كتب : أمل مبروك

كان محمد عليه الصلاة والسلام بشرا ولم يكن من الملائكة ، يجري عليه ما يجري على البشر يأكل كما يأكلون و يجوع كما يجوعون .. وينام ويستيقظ ويحزن ويفرح ويتكلم ويصمت كما يفعل البشر ، ولكن في كل هذا كان متميزا نأخذ منه القدوة ونكتسب منه المثل العليا ، فأعلى ما يكون الكمال البشري تجده في حياة محمد صلى الله عليه وسلم الذي زكاه ربه فقال جل وعلا: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

فى شهر ربيع الأول يطيب لنا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذى كان يفسر القرآن بأقواله وأفعاله وبأخلاقه وسلوكه، وكان مثالا للذوق الرفيع في كل شيء، فإذا تكلم يخفض صوته إلا في أوقات الجهاد ، فيعلو صوته كأنه نذير جيش وتحمر وجنتاه، لكنه في حديثه العادي خفيض الصوت، لا يتكلم بكلمة تسئ إلى جليس أو سامع، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سبابا ولا لعانا .

وكان إذا استمع إلى شخص أصغى إليه وأقبل عليه حتى لو أطال، ويظل مقبلا عليه حتى يكون الرجل هو المنصرف، يقول أنس رضي الله عنه: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بيده رجل فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده"، مبينا أن هذا الأمر لم يكن خاصا بالرجال الأحرار فقط، وإنما كان هذا الأمر عاما مع العبيد والإماء، وكما يقول أنس أيضا: "كانت الوليدة (أي الأمة) من ولائد المدينة تأتي فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يدع يده من يدها، وتمضي به في طرقات المدينة حتى يقضي حاجتها" من حيائه وأدبه وتواضعه صلى الله عليه وسلم.

نيات الأعمال

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكر شخصا بعينه إذا صدر منه أمر منكر بل كان يصعد المنبر ويقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" وكل لبيب يفهم بالإشارة، وقد قال العلماء إن حديث "إنما الأعمال بالنيات" إنما قاله الرسول في بعض الصحابة الذين هاجروا ليتزوجوا نساءً يحبونهن، ومنهم صحابي يحب أم قيس، حتى أطلقوا عليه لقب مهاجر أم قيس، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أحدا في حديثه ولكنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" وكل إنسان يفهم ما قصد بالحديث، وقد كان التعميم والخطاب العام هو الطريقة المفضلة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يؤذي مشاعر الناس..

 

ابتسامة الرسول

ولا عجب أنه صلى الله عليه وسلم كان يتفكه حيناً ويطرف للفكاهة والمزاح الذى لا يحمل إثماً ، فلم يكن النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته جافاً ولا قاسياً ولا فظاً ولا غليظاً، وإننا عند استعراض سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم نجد أنها قد تخللها نوع من الدعابة والمزاح. وكان لا يقول فى مزاحه إلا الحق، ووردت أحاديث كثيرة فى ذلك منها: ما جاء عن أبى هريرة _ رضىالله عنه _ قال: قالوا (أى الصحابة): "يا رسول الله إنك تداعبنا ! قال صلى الله عليه وسلم: لا أقول إلا حقاً"، وفى رواية: "إنى وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقاً".

وكان صلى الله عليه وسلم يبيح المزاح بحضرته ومن ذلك أنه كانت عائشة _ رضى الله عنها _ تمزح، والنبى صلى الله عليه وسلم جالس ولا ينكر ما تقوله، بل كان يوافقها.

وكان النبى صلى الله عليه وسلم يمازح صحابته بأفعاله وأقواله، فتحكى كتب السنة لنا ما دار بين النبى صلى الله عليه وسلم وزاهر بن حرام، وكان من الصحابة الذين يبعثون الهدايا للنبى صلى الله عليه وسلم، ولندع أنساً _ رضى الله عنه _ يروى لنا هذه الدعابة: قال : "أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدى للنبى صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، وجعل النبى صلى الله عليه وسلم يقول: من يشترى العبد؟ فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدنى كاسدا _ أى رخيصاً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لكن عند الله لست بكاسد أنت غال، وفى رواية: أنت عند الله رابح".

حتى الأطفال كان صلى الله عليه وسلم يمازحهم ويشاركهم لعبهم: فروى عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبدالله وعبيد الله وكثير بن العباس ثم يقول: "من سبق إلى فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم

 

خطر اللسان

كان عليه الصلاة والسلام كلامه فصلاً مفصلاً ، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول لم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد كلامه كسردكم هذا بل كان يتكلم كلاما فصلا لو عده العاد لأحصاه ، أي ممكن أن تعد كلماته كما كان كثير الصمت قليل الكلام ولكن إذا تكلم تكلم بما ينفع بالحكمة وفصل الخطاب وقال عليه الصلاة والسلام : أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكم اختصارا.. أي انه أوتي الكلمات الجامعة والمعاني الكثيرة في الكلمات القليلة ، أحاديث كثيرة رواها الرواة عنه صلى الله عليه وسلم تدل على قوة ما كان يقوله مثل: إنما الأعمال بالنيات ، إذا لم تستحي فأصنع ما شئت ، ليس الخبر كالعيان ،كما تدين تدان ، كلمات حكيمة جامعة سماها جوامع الكلم ، وروي من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنه لا يتكلم إلا في ما يفيد لأنه يعلم أن الإنسان مسئول عن كل كلمة تخرج من فمه قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وقال جل وعلا: أمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.. وهكذا يجب أن نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نطلق ألسنتنا لتتكلم في كل شيء ويتكلم الإنسان فيما لا يحسن ويدخل نفسه في أشياء ليس من أهلها ويتكلم في أعراض الناس عن فلان وفلانة ، فيملأ صحيفته بالسيئات ، وكان عليه الصلاة والسلام يوصي الأمة بخطر اللسان وأن الأعضاء تقول للسان اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا.

 

دموع النبي

و كان صلى الله عليه وسلم يبكي مثل كل البشر في مناسبات معينة ولكن لم يكن بكاؤه بشهيق ولا بصوت مرتفع ، كانت تدمع عيناه ولا يسمع صوته، كان يبكي رحمة ورقة ، ولقد أرسل له ذات مرة ليحضر وفاة إحدى البنات ورأى البنت الصغيرة تفيض روحها أمامه فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام ، فقال له بعض الصحابة تنهانا عن البكاء وتبكي يا رسول الله قال إنما هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ليس هذا البكاء المنهي عنه، المنهي عنه النياح والعويل.

وحينما مات ابنه إبراهيم قال وهو يودعه: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ، كان من حقه أن يبكي على ولده فهو أب ، كان عليه الصلاة والسلام رقيق القلب رحيما يبكي من أجل الناس فكيف لا يبكي من اجل ولده ، ولكن تدمع العين ويحزن القلب ولكن لا نقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون .

وكان يبكي إذا قرأ القرآن الكريم ويتأثر بهذا الكتاب العظيم، وقد وصف الله عز وجل بعض أهل الكتاب بقوله : قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وإذا كان هذا شأن أتباعه فكيف على من أنزل عليه هذا القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن مسعود اقرأ علي القرآن يا عبد الله فقال أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول قال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري فتلا عليه سورة النساء إلى أن وصل إلى قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، فقال له ياعبد الله حسبك قال فالتفت فإذا بعينيه تذرفان ، هذا بكاء الفرح مما أتاه الله من فضله أن يكون شهيدا على الناس جميعا ، وكان يبكي من خشية الله ويقول: عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين حرست في سبيل الله.

 

 

 

المصدر: مجلة حواء- أمل مبروك

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,824,164

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز