فى رمضان
سهرة مع عرائس الفنانة سهام على
كتب :صلاح بيصار
العروسة فن بمثابة مهرجان يضم كل الفنون .. فيها النحت من حيث التشكيل .. والتصوير من حيث الإيقاع وانسجام الألوان ..وفيها من الفنون الزخرفية والتطبيقية كما فى الأزياء والحلى والإكسسوار .
وإذا كان لكل بلد من بلدان العالم عروسة تعبر عن شخصيتها .. فان عروسة العرائس مصرية .. وهناك عشرات العرائس الفرعونية بالمتحف المصرى .. وفى الفن القبطى " أيضا .. أما عروسة الفاطميين فقد استمرت تضيء بألوانها التى شكلها الوجدان الشعبى إلى وقتنا الحاضر .. ولكن ورغم هذا يتردد هذا التساؤل : هل لدينا عروسة تعبر عن شخصية مصر المحروسة ؟ . الفنانة سهام على ميلاد تجيب على هذ ا التساؤل.. خاصة وقد بدأت رحلتها مع فن العروسة منذ مايربو على 50 عاما .., وجعلت منها صورة تعبيرية تتألق فى وجوه كثيرة بروح مصر كما امتدت أعمالها إلى مواقف ومشاهد مجسمة من الموالد والأفراح إلى البطولات والملاحم الشعبية .. وصورت العديد من الرموز المصرية فى عرائس تعكس روح الشخصية مثل الرئيس السادات والأديب توفيق الحكيم والمفكر حامد سعيد وسيدة الغناء العربى أم كلثوم .
فى منزلها بمصر الجديدة والذى يعد بمثابة متحف يضم إبداعاتها فى فن العروسة.. كنا هناك فى سهرة رمضانية وكانوا معنا فى كل مكان من هذا المتحف داخل فترينات زجاجية فى الحجرات والممرات .
البداية وسحر الريف
رغم مولدها عام 1927 بالقاهرة إلا أن الفنانة سهام تنتمى جذورها إلى الريف المصرى فعم والدتها حمد الباسل باشا عمدة قبيلة الرماح والذى أنشأ حزب الوفد مع سعد زغلول باشا وهو عمدة بلدة قصر الباسل وشقيقه عبد الستار الباسل زوج باحثة البادية ملك حفنى ناصف .
وكانت تذهب فى صحبة الأسرة إلى هناك بتلك القرية الخضراء .. تمتلئ بسحر الريف وصوره الشعبية وكان إعجابها بالحمار من بين حيوانات الريف يزداد .. تشكله فى عرائس من الطين .. حبا له وإشفاقا عليه لتكوينه الدقيق .
وفى قريتهم كان يقام مولد سيدى أبو حامد الغزالى وكانت تذهب فى طفولتها بصحبة فتيات القرية فترى المداحين والمنشدين وصانعى الخوارق من الصور العجيبة والمدهشة والراقصات مع امتزاج أضواء الكلوبات بضوء القمر .
وفى السنة التوجيهية حصلت على مجموع كبير كان يؤهلها للالتحاق بكلية الطب ولكن كان حلم حياتها الالتحاق بكلية الفنون الجميلة بنات ببولاق أبو العلا مكان كلية الاقتصاد المنزلى حاليا فى وقت لم تكن تسمح كلية الفنون الجميلة بدخول البنات .. وقد درست على يد رائدات فى الفنون والتربية مثل الفنانة زينب عبده والفنانة كوكب العسال فنانة الألوان المائية . . وتخرجت وحصلت على الدبلوم عام 1949 .
فى ذلك الوقت لم يكن فن العرائس معروفا ومن هنا شاركت فى البداية فى معارض جماعية تصوير ونحت وكانت مولعة بفن البورتريه أو الصورة الشخصية " على الحوائط صور عديدة من بينها صورة رسمتها لولدتها وأخرى لإحدى أخواتها " .
عروسة أم كلثوم
وكانت الصدفة وحدها هى التى قادتها الى فن العرائس .. كان ذلك عام 1965 حين كانت مجلة " هى " والتى كانت تصدر عن دار أخبار اليوم تنشر مذكرات ام كلثوم .. وذكرت فيها سيدة الغناء العربى أن جدتها شكلت لها وهى طفلة عروسة من القطن والقماش .. وقد قصت ضفيرتها لتزينها بها .. استهوت تلك الحادثة الكاتب على أمين ومست مشاعره .. فكان أن أعلن عن مسابقة بالمجلة لعمل عروسة فى سن الطفولة من اجل تقديمها للأطفال المحرومين بالملاجئ .. ونشر الإعلان بالمجلة وكان اسمها مسابقة " عروسة ام كلثوم " .
وبحماس شديد شاركت سهام فى تلك المسابقة وذلك لإنسانيتها من جهة وفى نفس الوقت لحبها لفن العروسة .
وتقدمت مع أكثر من 200 متسابق ومتسابقة وكان من بينهم الفنانة انجي أفلاطون والعجيب أن فنانتنا سهام على فازت بالجائزة الأولى . وكانت العروسة التى تقدمت بها فى ملامح طفلة مصرية صغيرة .. شكلتها من وحى ملامح ابنة أختها وعندما بدأت فى تصميم الزى الخاص بها اختارت أن تكون ملابسها بسيطة ومتواضعة من القطن بدلا من الحرير والدانتيل مثل ملابس تلك البنت التى ستقدم إليها وفى نفس الوقت شكلتها بملامح فيها اعتداد بالنفس .
وقد جاء فى قرار لجنة التحكيم التى كانت مكونة من الفنانين : بيكار وعبد السلام الشريف ومفيد جيد .. إن تلك العروسة تعبر عن روح الطفولة المصرية .
ومنذ ذلك الوقت بدأت رحلتها مع فن العروسة
تقول سهام : ولقد كان لاشتغالى بتدريس التربية الفنية بالتعليم الثانوى بمدارس البنات فرصة كبيرة فى تعميق هذا الفن .. فن العروسة .. حيث إن البنات فى سن المراهقة تبدأ لديهن الميول الغريزية للأمومة .. فتجد الفتاة وبشكل تلقائى تعمل من وسادتها عروسة تدثرها بالفوطة وتبدأ فى هدهدتها .. ومن هنا وجدت استجابة كبيرة من الطالبات .. كل طالبة تشكل عروستها الخاصة بها والتى تبثها أمومتها وأحلامها وقد شهدت مدرسة حلمية الزيتون وغيرها من مدارس البنات الثانوية عرائس شتى لطالباتها .. حين كنت بها .
السادات وتوفيق الحكيم
خلف سواتر شفافة وداخل دواليب من الزجاج .. تطل عرائس سهام على ميلاد .. مئات من العرائس .. لكل عروسة تعبير .. حققت من خلالها طابعا مصريا أصيلا يحمل معنى الفن تتوحد فيه كل فنون التعبير .. وتتميز العروسة الأنثى فى أعمالها بالجاذبية والحنان كما تنتشى بالسحر والجمال والدلال .. أما عرائس الرجال ففى كل عروسة انفعال .. حتى إن يحيى حقى صاحب القنديل عند زيارته لمتحفها قال بالحرف الواحد : " كل عروسة هنا من فرط التعبير تكاد تمشى وتتحرك فى الاتجاه الذى يعبر عن نشاتها ومكان وجودها فى مصر " .
هنا تطل المراة البدوية من نساء سيناء ونساء الواحات .. والفلاحة التى تنتمى للوجه البحرى بملابسها الريفية .. والعروس فى ليلة الحنة وعرائس المولد فى ألوان صداحة تخطف الإبصار بالمراوح والتيجان .. وهنا صور تعبيرية ومشاهد من البيئة المصرية .. من زفة العروسة والراقصة والشمعدان وعمدة القرية وحارسه ومجذوب الموالد الشعبية ونزهة الحنطور .. كما امتدت إعمال الفنانة إلى أبطال الملاحم الشعبية فجسدت الزير سالم والشاطر حسن على حصانه يكاد يطير كالسهم .. وعنترة بن شداد .. لكن جاء تصويرها لرموز من الشخصيات التى أثرت فى وجدان الإنسان المصرى غاية فى الدهشة والطرافة .. كل شخصية موقف وحالة وكل حالة تعبير وانفعال .. وقد جسدت الرئيس السادات فى أربع حالات تعبيرية .. مرة بالجلباب والعباءة من وحى شخصيته التى كانت تراها فى حديثه مع المذيعة الناجحة همت مصطفى ومرة أخرى بالملابس المدنية كما شخصته فى عروستين بالملابس العسكرية .
وجاءت ام كلثوم بلمستها تهتز طربا فى " سلوا كؤوس الطلا " وحامد سعيد صاحب مدرسة الفن والحياة .
أما توفيق الحكيم فقد جسدته بشخصيته المسكونة بالفكر والفن خاصة وهى تشترك معه فى الإعجاب بالحمار .
وعندما التقت بالحكيم وتطلع إلى عروسته قال لها فى حماس : ياه هو أنا ولكن قماش البدلة فى العروسة أشيك وأغلى ثمنا مما ارتدى !!.. وقد علق على اسمى مبتسما : اسمك فيه وحدة وطنية !!.
وأتمنى أن يدرس فن العرائس فى المدارس بدئا من سن الطفولة فهو فن غنى بالتشكيل .. وأيضا يكون هناك أقسام للعرائس بالكليات الفنية بل اننى أتمنى أن يكون لدينا متحف قومى يضم عرائس مصر من كل العصور بداية من أيام الفراعنة .
وعروسة تتمنين تشكيلها لشخصية مصرية ؟
- أتمنى أن يضم إلى هذه الأعمال عروسة أصور من خلالها شخصية الأديب الإنسان يحيى حقى ففى شخصيته بساطة وعمق وسماحة الشعب المصرى .. هو كاتب ساخر وجاد وفنان وناقد أهم مايميزه إنسانيته الشديدة .. وأتخيله الآن جالسا فى ليلة رمضانية وفى الخلفية مسجد السيدة زينب وأمامه على منضدة بعض من كتبه مثل البوسطجى وأنشودة للبساطة وقنديل أم هاشم .
تحية إلى الفنانة سهام بعمق لمستها التى جسدت الشخصية المصرية فى عرائس تكاد تتحدث .
ساحة النقاش