الكذب

كتب:محمد الحمامصي

نضحك وننسى أحيانا كثيرا عندما يتراجع أحد عن كلامه سواء كان وعدا أو اتفاقا أو حتى أمرا مرسلا من باب اللهو والتهرب أو الاستغفال للآخرين أو الاستمرار في المنصب القيادي، ونقول بسخرية متسامحة "كلام الليل مدهون بالزبدة يطلع عليه النهار يسيح"، لكن الحقيقة أنه كذب صريح، وهكذا اعتدنا على السخرية والضحك والنسيان، وتمر السنوات والأيام والساعات ليتفشي الكذب بين الكبير والصغير، ويصبح سلوكا عاديا لا يستوقف أحدا ولا يؤاخذ أو يساءل أحد عليه، بل نضاحكه ونلاطفه ونواصل السير.

كذبنا كثيرا وسمحنا لغيرنا بأن يكذب علينا، كذب رب البيت سواء كان البيت أسرة أو عائلة أو برلمانا أو وزارة أو دولة، ليتفشى ويتراكم الكذب من جيل إلى جيل ونصل إلى ما نحن عليه الآن من انهيار وفقدان للثقة طال الكثير من جوانب حياتنا وعلاقاتنا الخاصة والعامة.

لقد أصبح الكذب طاعونا يمشي كالمعول بين الناس هادما للقيم والمثل والمبادئ، دون رادع من دين أو قانون أو ضمير، وما دعوات الشفافية والوضوح والصدق التي ينادي البعض بها بين الحين والآخر، إلا رد فعل مقاوم بائس، كونها لم تجد آذانا صاغية لا من كبير ولا من صغير، مسئول أو غير مسئول.

لسنا هنا في باب النصح والإرشاد أو التعرض لما توعد الله عز وجل به الكذابين، ولكن في لفت النظر إلى أن مرضا يكاد يفتك بجسد المجتمع ويهدد مستقبله ومستقبل أبنائه، وأن من يشيعه للأسف الشديد ومن يحرض عليه هم كبارنا من المسئولين، ويكفي أن نشير إلى أن المجتمع عاش ما يزيد عن ثلاثين عاما هي عصر الرئيس السابق يأكل ويشرب ويتنفس في حلقة ملوثة من الكذب.

يقتتل الناس أو يسرقون أو يغشون أو يفسدون نتيجة تمادي كذب هذا المسئول أو ذلك، يخرج المسئول ليقول مثلا إن مشكلة أنابيب البوتاجاز انتهت، أو إن الرغيف متوفر في الأفران أو إن الكتاب المدرسي وصل إلى المدارس وتم توزيعه، أو إن المستشفيات تتوفر فيها كل الأدوية التي يحتاجها المواطن، ثم يفاجأ المواطن بأنه يقاتل جاره وأخاه من أجل أنبوبة بوتاجاز أو رغيف عيش، وأن الطلاب في المدرسة يضربون بعضهم البعض لأن أحدهم امتلك الكتاب المدرسي نتيجة نفوذ والده بينما الآخرون لا يملكون ذلك.

هذا المسئول أو ذلك يكذب بفخر على الملأ وأمام شهادة الحقائق على الأرض كذبا مفضوحا دون أن يدرك أن كذبه لا يؤذي المجتمع فقط بل يدفع به إلى الهاوية والانهيار، يكذب المسئول ظنا منه أنه يحمى الدولة والكرسي والمنصب، دون أن يخطر بباله أن الكذب يؤدي إلى جرائم كبرى قد تصل إلى حد إهدار الناس لدم بعضهم البعض في طابور الخبر أو أنبوبة البوتاجاز أو راتب التأمينات الاجتماعية أو المعاش أو البطالة.

لسنوات طويلة حاول الصحفيون إصدار قانون حرية تداول المعلومات وتلاعبت حكومة تلو الأخرى، وحتى الآن يذهب الصحفي إلى هذه الوزارة أو تلك يطلب ردا أو تعليقا على مشكلة أو أزمة يعاني منها الناس، فيفاجأ بالتعتيم عليه ورفض المسئول الإدلاء بأي معلومات، بل كثيرا ما يواجه بالسخرية والطرد من هذا المكتب أو ذاك، في هذه الوزارة أو تلك، وتستمر حالات التهرب والكذب في الوزارات والمصالح والهيئات الحكومية.

لقد شبع الناس كذبا وتهربا من المسئولية فلم يعد أمامهم كما نرى إلا أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرجوا جماعات لقطع الطرق وتعطيل الأعمال وإثارة الفتن، لذا نتمنى من الحكومة الجديدة برئاسة د.كمال الجنزوري أن تتحسب فيما تدلي به من تصريحات وأن تتحرى الصدق فيما تقول وتفعل وتعمل خاصة ما يرتبط بحياة الناس، وأن تواجه وتحقق الشفافية والوضوح والصدق في مخاطبتهم.

بل أتمنى على الدكتور الجنزوري أن يتخذ موقفا حاسما ويخرج ليعلنه على الناس أن زمن المسئول الكاذب قد انتهى، وأن أي مسئول سيثبت أنه يكذب في تصريحاته للناس أو يخفي الحقيقة سوف يتعرض للفصل من العمل أولا ثم للمساءلة القانونية ثانيا فإذا تأكد كذبه فالسجن أولى به، وذلك ردعا لهؤلاء الذين "يتمنظرون" على الناس ساخرين من أزمتهم وعقولهم.

 

 

 

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 503 مشاهدة
نشرت فى 15 ديسمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,813,437

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز