دموعه أبكت المصريين

د. زين عبد الهادى رئيس الهيئة العامة لدار الكتب :

30 خبيراً لاستعادة ذاكرة الأمة

كتبت :نبيلة حافظ

لحظات مؤلمة وقاسية ومريرة مرت علينا منذ عدة أيام - لحظات حرق المجمع العلمي المصري - والتي عاشها كل مواطن حر شريف بهذا الوطن .. لأننا أدركنا أن هذا العمل الإجرامى ليس مجرد حرق لمكان أثري ثقافي كبير وعتيق .. ولكنه كان حرقاً للعقل وحرقاً للذاكرة التي تربينا عليها نحن وآباؤنا وأجدادنا.

لقد أدرك أصحاب الأصابع الخفية التي تعبث بأمن مصر أن هذا العمل الإجرامي سيمحو ذاكرة الأمة والشواهد التاريخية كثيرة، منها تدمير مكتبة دار الحكمة علي أيدي المغول عند اجتياحهم بغداد وإلقائهم بجميع محتوياتها في نهر دجلة.

وما بين جريمة المغول وحرق مكتبة دار الحكمة وبين حريق المجمع العلمي المصري نقف علي الهدف الأساسي وراء تلك الجريمة وهو تحويل مصر الحضارة والثقافة والعلوم إلي مصر الصراعات والأزمات .. يريدون القضاء علي التراث المصري والعربي والثقافة الإسلامية ولكنهم لم ولن يفلحوا أبداً بأذن الله..

ولكن .. بعد أن تجاوزنا الأزمة .. ووقفنا على أرض صلبة وقوية كان لابد لنا أن نتأمل وندقق فى الصورة الآن .. ننظر إلى المستقبل ونتجاوز الماضى ونعى الدروس المستفادة من هذا الحدث ..!

ومن بين ركام الماضى .. ورائحة الأوراق المحترقة جاء الأمل وبقيت إشراقة المستقبل الذى نحلم به ونتطلع إليه .. أيام سوف تحمل الخير لنا جميعا بإذن الله .. لذلك كان علينا أن ننقل كل هذه المشاعر والأحاسيس من داخل مبنى دار الكتب القومية. لنجد مجموعات عمل من متطوعين يقومون بعملهم بهمة ونشاط على مدار اليوم يتسابقون من أجل إنهاء مهمتهم فى أسرع وقت ممكن فهم يدركون قيمة الوقت وعظمة العمل الذى يؤدونه .. صورة جميلة مشرقة جعلتنى أُجِل وأحترم عظمة كل مصرى مخلص لوطنه.

ومن وسط هذه الملحمـــــة الرائعة كان الحوار ..

الحوار مع الرجل الذى بكى وأبكانا معه أمام شاشة إحدى الفضائيات .. بكاء الرجل لم يكن على المشهد العام ولكنه بكى على أوراق تخيل أنها من لحم ودم تموت وتحترق .

إنه د. زين عبد الهادى.. أستاذ التوثيق الإعلامى بكلية الآداب جامعة حلوان .. ورئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية وعضو اللجنة التى شكلها رئيس مجلس الوزراء لإنقاذ وترميم المجمع العلمى المصرى فإلى الحوار:

- قلت له : لا نريد النظر إلى الوراء أو العودة إلى الخلف .. ولكن فقط نقف على اللحظات المؤثرة .. لحظات البكاء ..!

- يسترجع هذه اللحظات ليقول .. كان المشهد أمام عينى مشهدا أسود أظلمت فيه الحياة أمامى وشل عقلى ولم أستطع حفظ توازنى النفسى .. وكل ما جاء بخاطرى كل المشاهد المؤلمة والحزينة التى قرأت عنها وعايشتها بالحياة .. مشاهد الحرائق التى أتت على تراث مصر العظيم وهو يحترق وليس المجمع العلمى فقط.. صورت لى وساوسى أن الأيدى العابثة امتدت لكل مكتبات مصر وفى كل مكان.. وقتها فقط تملكنى اليأس ولم أعد أرى أمامى وتوقف عقلى تماما .. وكل ما كنت أريده إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

يتوقف للحظات .. يستعيد هذا المشـهد ثم يقول:

- وجدت هناك مفاجأة لم أتخيلها .. مصريون شرفاء ليس لهم علاقة بالكتب ولا بالثقافة يشاركون فى عمليات الإنقاذ.. لم يكن غريبا أن أجد شباب المتظاهرين معى.. أو المتطوعين من الجامعات المصرية ولكن كان الغريب حقا بعض الصبية الذين أتوا لحرق المجمع دون وعى منهم.

وما أدهشنى أيضاً أثناء عملية الإنقاذ مشاركة أجانب متطوعين .. يقيمون بمصر ويدركون معنى وقيمة هذه الكتب ويجلون التراث المصرى، لذلك أصروا على المشاركة حبا فى مصر وشعبها.

 ولكن ما بين لحظات الرعب والهلع كانت الصورة كلها يأس وإحباط وظلام حالك عكس ما أراه الآن .. الصورة أصبحت مشرقة يظللها الأمل.. كيف كان هذا التحول من جانبك !!

- التحول كان تلقائياً وطبيعياً للغاية ففى وقت الأزمة يحل اليأس والظلام ولا يكون هناك رؤية على الإطلاق .. ولكن بعد تجاوز الأزمة يبقى الفكر الهادئ المستنير المبنى على حقائق ووقائع مؤكدة تدعو إلى التفاؤل والأمل.. وهذا ما حدث لى .. ففى وقت حدوث الحريق كانت الدنيا أمامى مظلمة .. وتخيلت أن تاريخ مصر كله احترق وأن كل ما كان بالمجمع ضاع ولا يمكن تعويضه .. كتاب وصف مصر .. وثائق وخرائط هامة تمثل الحياة بالنسبة لنا.. كتب نادرة ونسخ أصلية لا يمكن أن نجد لها مثيلاً.

ولكن بعد تجاوز الأزمة بقيت الحقائق .. والذاكرة التى تحاول أن تستعيد كل شىء من هذا التراث.. لذلك كان الأمل فى القادم من الأيام .. الأمل ممثل فى أن ما تم احتراقه سوف يتم تعويضه بيسر وسهولة سواء كانت الكتب أو الخرائط والوثائق أو مبنى المجمع ذاته .. كل هذا سوف يعود وسيكون أفضل بإذن الله.

لكن السؤال الآن كيف يعود ما احترق ؟

- الإجابة بسيطة جداً ومن على أرض الواقع ويكفى أن أقول لك أن كتاب وصف مصر لم يحترق بأكمله وهناك كتب سليمة لم تمسها النار ونسخة وصف مصر التى كانت بالمجمع ليست النسخة الأولى كما صرحت من قبل .. فهناك حوالى 11 نسخة فى مصر .. منها نسختان فى دار الكتب واحدة طباعة إمبراطورية وتتكون من 26 مجلداً .. والأخرى طباعة ملكية وتتكون من عشرين مجلداً .. وهما متطبقتان فى المحتوى.

أما بالنسبة لخرائط الحدود المصرية مثل خرائط حدود مصر فى طابا وأم الرشاش وحلايب وشلاتين كل الخرائط الحدودية موجودة بدار الكتب التى تحتوى على أكثر من 11 مليون خريطة..

- وما يدفعنا إلى الطمأنينة - أيضاً - أن الدار لديها أرشيف إلكترونى لتلك المخطوطات والكتب النادرة فى مصر وهذا الأرشيف يضم نسخة طبق الأصل بنفس الحجم من الكتب وستقوم الدار بطباعة الأجزاء التالفة من الكتب التى احترقت من هذه النسخة الديجتال ووضعها فى النسخة الأصلية.

 لحظات توقف يتأمل فيها مشهداً لا ينسى .. يوصفه لى بعد أن طلت دموعه من بين مقلتيه ويقول :

- قد يتخيل البعض أن ما تم إنقاذه من المجمع تم بشكل طبيعى كما يحدث فى معظم حوادث الحرائق المشابهة .. تندلع النيران .. ثم تأتى سيارات الإطفاء لتخمدها وبعدها يتم الدخول إلى مكان الحادث والوقوف على حجم الخسائر وإنقاذ ما تبقى من الحريق.

هذا لم يحدث فى حريق المجمع العلمى.. فالمجمع وقت إشعال الحريق فيه .. وقبل أن تتمكن المطافئ من الوصول إليه وإخماده .. كنا نحن هناك .. أنا وغيرى كثيرون .. كنا وسط نيران مشتعلة وطلقات رصاص.. وزجاج مولوتوف وحجارة تلقى علينا من هنا وهناك كل هذا لم يثننا عن دخول المجمع .. لم نتردد ولم نخشَ الإصابة أو الموت .. أصيب منا الكثير .. وسالت دماء طاهرة ذكية على الكتب السليمة والمحترقة لتزينها وتزيد من قيمتها .. لقد كانت ملحمة رائعة وجميلة تعجز عن وصفها الكلمات ..!!

الملحمة لم تنته بعد .. واستمرت بعد عملية الإنقاذ!!

- نعم .. الملحمة مازالت مستمرة .. والصورة التى تشاهدينها الآن .. وسط الكتب المحترقة وعشرات الأيدى المخلصة التى امتدت إليها لترممها وتعيد إليها الحياة .. كلها تؤكد على عمق حب الإنسان المصرى لوطنه ولترابه .. ليس هذا فحسب بل هناك عشرات المتطوعين الأجانب أتوا إلى مصر خصيصا على نفقتهم الخاصة .. تكبدوا الكثير من المشقة ودفعوا آلاف الجنيهات لكى يشاركوا فى عملية الإنقاذ هل هناك أروع وأجمل من ذلك؟

 ما هى خططكم للمجمع فى المرحلة المقبلة ؟

- «30» متخصص فى الترميم من دار الكتب .. «7» مرممون من المركز الإسلامى «21» مرمماً من دول العالم المختلفة متطوعين مصريين .. بعض من رجال القوات المسلحة ومع هذا الفريق كانت المساهمات المادية والعينية من جهات مختلفة فهناك مؤسسات صحفية أمدتنا بكميات ممن الأوراق الللازمة لعملية الترميم.. وهناك تبرعات أتت من جاليات مصرية بالخارج .. بالإضافة إلى عروض كثيرة للمساعدة توالت علينا من مؤسسات أهلية بمصر وخارجها .. كل هذا لحب يجعلنا نشعر بالفخر والسعادة .. فإذا كانت الأفراح تفرقنا.. فالأحزان تجمعنا وتقوى من عزيمتنا .. وهذه سمة من سمات الشعب المصرى.

- الخوف .. هل له مكان على أرض الواقع .. الخوف الذى أقصده من تكرار الحدث وإحراق أماكن أخرى لها قيمتها التاريخية والثقافية؟!

- لا .. وألف لا - قالها بإصرار - فما حدث فى الأربعة أيام الماضية - يقصد أيام حرق المجمع وإنقاذ ما تبقى منه - أعطانا دروساً لمائة عام قادمة لن يتكرر هذا الحدث مرة ثانية على الإطلاق .. والسبب بسيط للغاية أن الشعب المصرى لن يقف مكتوف الأيدى أمام أيادى الهدم والحرق والتخريب .. الشعب المصرى سيتصدى بكل قوة وحزم أمام أية محاولات أخرى.. هو وحده الذى سيحمى منشآته ويدافع عن مقدراته .. لذلك لا أخاف على مصر الآن.

وتبقى الدروس المستفادة .. لابد أن نعيها جيداً ..!!

- أعتقد أن الأيام القادمة سوف تبلور لنا الدروس المستفادة من هذه التجربة وأهم هذه الدروس هو صدور قانون بتجريم كل من يحرق وثيقة أو يبيع وثيقة لابد من وجود عقاب رادع لمثل هؤلاء .. ثم علينا أن نقوم بعمل قاعدة بيانات لكل المكتبات المصرية .. هذه القاعدة مهمة جداً لحفظ تراثنا الثقافى .. نريد أيضا صدور قانون من وزارة الثقافة لإشراف دار الكتب القومية على جميع المكتبات الموجودة بمصر والتى تتبع جمعيات أهلية والإشراف الذى نريده ليس إشرافا ماديا أو إداريا ولكن إشرافا فنيا على الأداء والحفظ والصيانة لهذه المكتبات، ففى هذه المكتبات درر ثقافية نادرة علينا أن نحافظ عليها من التلف والعبث فى القادم من الأيام.

انتهت كلمات د. زين عبد الهادى ولكن بقيت له أمنيات الأمنيات أن يصبح لدى الإنسان المصرى وعى بقيمة الكتاب فلقد كانت بداية رسالة الله لنبيه محمد أن يقرأ لذلك كانت القيمة العظيمة للقراءة .. وعلينا أن ندرك هذه القيمة جداً .. وأن نربى الأجيال القادمة عليها.. لابد لمؤسسات الدولة جميعها أن ترسخ هذا المعنى من خلال المساجد والكنائس والمدارس .. علينا جميعاً أن نعلى القيمة الغالية والمعنى العظيم للكتاب

المصدر: مجلة حواء -نبيلة حافظ
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 849 مشاهدة
نشرت فى 29 ديسمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,702,983

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز