النمنم يقرأ الأزهر التاريخ والمستقبل
كتب :محمد الحمامصي
يقدم الكاتب والمفكر حلمي النمنم في كتابه الصادر هذا الأسبوع عن مكتبة مدبولي "الأزهر .. الشيخ والمشيخة" رؤية شديدة الخصوصية لوضع إحدى أبرز المؤسسات الدينية العربية والإسلامية قديما وحديثا، ألا وهي الأزهر الشريف، مؤرخا ومحللا لمواقفها ومعاركها وعلاقاتها وأدوارها الدينية والاجتماعية والوطنية والسياسية سواء عبر رجالها من الشيوخ الكبار أو طلابها، ليضع أمامنا كيانا ذا موقع استراتيجي في بنية المجتمع والدولة، يمثل رجالها وخاصة رجلها الأول عصبا أساسيا في بنيانه. يحيط النمنم بتاريخ الأزهر الشريف شيخا وموقفا ليقدم رؤية لا تنتمي للماضي بقدر ما تقرأ المستقبل، رؤية لا تطالب ولا تفرض ولكن تضع الأدوار والرجال والمواقف في الموضع اللائق بالمؤسسة الأزهرية ماضيا وحاضرا، رؤية تكاد تختلف كلية عن مجمل الدراسات والبحوث والكتابات التي تناولت المؤسسة، حيث يقرأ ويحلل الوقائع والمواجهات والأوضاع الاجتماعية والسياسية، يختلف منتقدا ويتفق مثنيا، ويرى انطلاقا من أفق ليبرالي يحترم الكيان ويحفظ له دوره وموقفه، ليقدم رسالة موضوعية إلى الدستور الجديد، تخلص إلى أن هذه المؤسسة تشكل حاميا حقيقيا لبنية المجتمع المصري، وأن صونها قوية وحفظ حقوقها وكفالة حريتها واحترام مواقفها سواء اختلفنا أو اتفقنا معها أمر لا ينبغي التفريط فيه أو التقليل من شأنه.
ويحذر النمنم من أن هذا الكيان تم جر بعض علمائه في فترات سابقة قديمة وحديثة لينساقوا وراء غواية السلطة، ومن ثم نأوا عن "الدور الأول للأزهر الفقهي والعلمي، وهذا الدور يهيئ للأزهر والعلماء الاشتباك مع الواقع الاجتماعي"، مؤكدا على وجوب"أن يقف الأزهر وشيخه على مسافة من سياسات الحكومة وتوجهاتها فضلا عن ممارساتها اليومية". ويقول "إن غباء السلطة كان واضحا في إصرارها على أن تجعل الأزهر مؤسسة حكومية في مواقف شيوخه ومساندتهم لسياساتها، نجد ذلك واضحا منذ تأسيس الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي وما تلاه من تنظيمات حتى الحزب الوطني، ففي كل هذه التنظيمات كانت توجد لجنة دينية يجري ضم كبار العلماء إليها".
هذا التوريط للأزهر في الشأن السياسي العام وطموحات النخب السياسية أدى في رأي النمنم إلى فقدان الدولة صوتا دينيا كان يمكن أن يلفت الانتباه إلى الأخطاء التي تقع والمخاطر القادمة، وفقد هؤلاء العلماء الكثير من مصداقيتهم ومن ثم التأثير في الرأي العام والقيام بدوره التربوي والأخلاقي وضعفت مؤسسة الأزهر وفقدت جزءا من ريادتها ودورها الاجتماعي والسياسي، وقبل ذلك العلم والفقه، وصار ينظر إليه على أنه أقرب إلى مؤسسة حزبية أو سياسية مباشرة وعلماؤه علماء وفقهاء السلطان".
إننا هنا أمام أحد المحاور الرئيسية التي يهدف إليها كتاب النمنم، أن تورط الديني في السياسي يفقده مصداقيته، خاصة في ظل الظروف التاريخية الصعبة والملتبسة التي تمر بها البلاد، حيث لا ينبغي أن يتورط الديني في الدفاع عن سياسات يدرك تماما ديكتاتوريتها واستبدادها وظلمها، وأن انحيازها لابد أن يكون مستمدا من الشعب ومطالبه المشروعة، لكن للأسف سقط الكثير من علمائه وشيوخه في إغواء السلطة والكرسي والأمل في المناصب، فاهتزت أركان البنيان.
لكن مجئ الشيخ أحمد الطيب شكل كما يرصد النمنم عودة قوية للأزهر المستقل عن الإرادة السياسية وإغواءاتها، فقد استقال من المكتب السياسي للحزب الوطني الحاكم فور صدور قرار تعيينه شيخا للأزهر، وانكفأ الرجل على إصلاح ما تم إفساده في عهود سابقة، ومع انطلاق ثورة 25 يناير "وقف الشيخ على مسافة متساوية من الحكم ومن المتظاهرين، وكان ذلك مكسبا للمتظاهرين، فلم يتورط الشيخ فيما تورط فيه آخرون".
بل كما هي عادة أبناء الأزهر في الثورات "شاهدنا شباب العلماء من أبناء الأزهر يندفعون في مجموعات بعمائمهم وزيهم الأزهري إلى ميدان التحرير منذ موقعة الجمل، ليؤكدوا انحيازهم إلى المطلب العام للجماهير المصرية، وأن موقعهم وسط الجماهير".
إن أكبر التظاهرات التي خرجت في جمعة الغضب في 28 يناير 2011 خرجت من الجامع الأزهر، مؤكدة أن الأزهر مؤسسة الشعب الدينية والاجتماعية والسياسية وصوته في مواجهة الاستبداد، وأن أي تعارض بين موقف شيوخه وموقف الشعب يجعل الأخير ينقلب عليه، وهذا ما تؤكده الواقعة التاريخية التي يتوقف عندها النمنم في فصله "غلبة الشيخ الشرقاوي"، يقول "وفي زمن الحملة الفرنسية كان الفرز واضحا أمام الأهالي بين علماء اختاروا طريق المقاومة، ودفع بعضهم حياته ثمنا لذلك، وعلماء اختاروا دور الوساطة الذي انتهى عمليا إلى اتهامهم من جانب الأهالي، حتى أن الشيخ عبد الله الشرقاوي "شيخ الأزهر" ومعه الشيخ موسى السرسي تم الاعتداء عليهما بالضرب من الأهالي حيث ذهبا ليعرضا عليهم وقف المقاومة فى أثناء ما باتت تعرف بالثورة الثانية في القاهرة".
عبر فصول الكتاب التي تقارب 300 صفحة يصل بنا النمنم إلى ما أطلق عليه "وثيقة الأزهر الأولى"، و"وثيقة الأزهر الثانية" التي حظيت بقبول مجمل الأطياف والتيارات السياسية وغير السياسية في مصر، باعتبارها تضع ركائز أساسية ينبغي أن توضع في الاعتبار عند وضع الدستور الجديد، وهي ركائز التزمت الاستنارة في الرؤية، يختتم الكتاب مجموع الوثائق الحديثة للأزهر.
ويبقى أن نشير إلى أن أهمية هذا الكتاب لا تقتصر على الأزهر وشيوخه دورا وموقفا، حيث يضعنا في صلب المعارك والتحولات الاجتماعية والمواقف السياسية والدينية ذات العلاقة التي شهدتها مصر منذ بناء الأزهر، لذا فإننا لا نقرأ تاريخ الأزهر بقدر ما نقرأ جزءا حيويا وحيا من تاريخ مصر، ذا علاقة وثيقة بحاضرها وما سوف يتشكل عليه مستقبلها
ساحة النقاش