إلى الجبناء
كتب : محمد الحمامصي
يحكي في سالف العصر والزمان أن رجلا وربما امرأة "حرباء" غير ذات شرف ولا كرامة ساقها حظها العاثر إلى العمل بين أناس أمناء شرفاء، فسعت إلى الإيقاع بينهم، من شق إلى شق ومن حفرة إلى حفرة تتقلب وتترقب، تلبس ثوب التقوى والإيمان تارة وثوب الكفر والإلحاد تارة وثوب المجنون والأهطل تارة، وهي أثناء ذلك كله تلدغ في سمعة هذا وشرف هذا وإيمان هذا، وتوقع بفتنة وضلال الباطل بين هذا وذاك، حتى أثارت الشكوك بينهم، ولكن سرعان ما ينكشف أمرها وتفضح على الملأ ويجتمع عليها الصغير والكبير ويتم ربطها بحمار ذي جرس عال رنان ويطلق ليتجول بجثتها، وكان كل شارع وحارة وعطفة تمر بها يكتم الناس أنفاسهم من فظاعة رائحتها العفنة وعيونهم من بشاعة منظرها وآذانهم من صوتها النكرة.
وهكذا يكون آجلا أو عاجلا جزاء الدساسين والخبثاء والموسوسين والجبناء والمشعوذين و"الملبوسين" بالجهل والتخلف، يمهلهم الله لكن لا يهمل ما ارتكبوه من جرائم، لذا لابد أن نتنبه إلى قيم الأمانة والكرامة والشرف والعمل التي بدأنا نهدرها ونساير الدس والخبث والشهوة ارضاء لفساد وخراب ونفاق ضمائرنا.
يستكثر هؤلاء أن يعيش البعض أمينا نزيها يحفظه الله مما يتناهشهم من أدران، بل لا يرجون ذلك، لأنهم يريدون أن يصبح كل الناس على شاكلتهم ملوثين بالكذب والجبن والجهل، يريدونهم مثلهم مطأطئ الرؤوس من أجل فتات الزينة والتباهي والتفاخر.
لقد رأيت أمثال هؤلاء وهم كثر، يداهنون ويطأطئون وينافقون ويدهسون كرامتهم جبنا وخوفا على مصالح أهوائهم الزائفة الزائلة، رأيتهم لا يقيمون رؤوسهم من الأرض نفاقا لصاحب السعادة وصاحب السيادة وصاحب العظمة، رأيتهم يتكلمون حقا ويريدون باطلا فيما تمتلئ صدورهم غلا وحقدا وجبنا على الشرفاء أصحاب الإرادة الحرة النزيهة الذين يأكلون كسرة الخبز من عرق جبينهم، ويحفظون كرامتهم مهما كان الثمن غاليا.
وكم حمدت الله كثيرا أن هناك شرفاء أمناء في أمتنا المصرية، عرفتهم واقتربت منهم ورأيت كيف يصونون كيانهم وبنيانهم الديني والأخلاقي والمعرفي والفكري بالصمت تارة والتجاهل تارة والإنزواء والبعد تارة أخرى، رافضين أية مساومات أو إغراءات قد تشوههم أو تنتقص من كيانهم أو بنيانهم.
ولأن المرء يعرف أن هذين الصنفين من البشر قائم في كل زمان ومكان منذ بدء الخليقة، لا يندهش كثيرا، لكن ما يدهش ويقض المضجع في هذا التوقيت بالذات الذي تمر فيه "مصرنا الغالية" بظروف بالغة الصعوبة، أن الصنف الأول لا يركن إلى الهدوء وأن وسائله في الدس والتآمر قد تطورت وباتت تستخدم تقنيات تتجاوز مجرد الغيبة والنميمة أو التلصص أو استخدام الحق حجة على الباطل المزيف، إلى التآمر والتحريض واللعب بضعف البسطاء الجهلاء والدفع بهم لخلق الفوضى والعنف.
إن الأمة المصرية جميعها على خطر من هذا الصنف، فكما أشرت، هو صنف يرفض الشرف والأمانة والنزاهة ويسعى إلى تشويه ومسخ بل قتل تلك المفاهيم الجوهرية في البناء الإنساني السليم والمعافى، وهو من أجل ذلك يقود حملة تلو الأخرى للانقضاض عليها وما تبقى من قيم ومبادئ وثوابت تحملها الأمة، وللأسف يستخدم في حملاته الدين كونه يعرف بخبث أن العاطفة الدينية هي الوسيلة الأقوى والأنفذ لتحقيق مآربه وتلويث الآخرين.
ومما يؤسف له أن نماذج هذا الصنف تستشري في كافة مؤسسات الدولة وهيئاتها وأنها وراء هذا الخلل من عدم الاستقرار الذي شهدته مصر ولا تزال تشهده منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، بل سوف يؤكد التاريخ أنها سعت لإسقاط الدولة ودفع الأمة إلى الفوضى والدم والنهب.
إن مقاومة هذا الصنف ينبغي أن تبدأ بمشروع قومي يتخذ من شعار "مصر فوق الجميع" طريقا ومنهجا، ويقوم على خطة تعيد بناء منظومة التعليم، ودولة القانون، والبنيان الاقتصادي، وتعمير العقل بالمعرفة والثقافة والإبداع المستنير الهادف، واعتماد الشباب ركيزة أساسية، وخلق مناخ صحي يقوم على الشفافية والنزاهة والاحترام المتبادل، مثل هذا المشروع الذي تقدم فيه مصر على الشخصي والذاتي، سوف يفضح ويحاكم تلقائيا المتآمرين الذين استغفلوا قهرا وجهلا وتخلفا الأمة وحطموا الكثير من مقدراتها وهدموا وشوهوا وأسقطوا الكثير من أبنيتها العريقة وسرقوا الكثير من عمرها لمجرد أن يبقوا في السلطة.
إنني أتطلع مثل أي مصري حر شريف، رفض الانتماء لحزب أو جماعة أو تيار أو شخص، أن ننتبه ونحذر وألا ننشغل ونتشتت، فنحن أحوج ما نكون لتجاهل مثل هؤلاء المتخلفين الموسوسين عقليا حفاظا على ما تبقى من مصر.
إنني أتطلع من الجميع تبني قناعتي الخاصة ممثلة في الانتماء لمصر ولقيمها العظيمة ولأبنائها العظماء الشرفاء الذين أناروا الإنسانية بأفكارهم وإبداعاتهم واختراعاتهم، وخلع الانتماء الأيديولوجي لحزب أو تيار أو جماعة أو شخص، ليظل "الانتماء لمصر" الخيار الأفضل للجميع.
عاشت مصر ..عاشت مصر فوق الجميع .
ساحة النقاش