غسيل دمـــــــاغ
كتب : محمد الحمامصي
يبدو الأمر لي الآن منظماً وممنهجاً ومتعمداً، فعلى مدار عام وستة أشهر ـ أي منذ تنحي مبارك ـ وجه المسئولون والقوى والتيارات والأحزاب السياسية قديمها وحديثها، كل ما يملكون من نفوذ ونوافذ ووسائل إعلامية على العقل المصري، لبث آلاف الآراء والأفكار والتصريحات والأحاديث والمواقف والإجراءات والدعاوي التي يناقض وينافق ويكذب بعضها بعضا، والعبث بما بقي له من اتزان والإخلال بإرادته وقدرته على التفكير والرؤية الصحيحين، حتى ليمكن القول باطمئنان كامل أن ما جرى يشكل "غسيل دماغ" وفقا للمفهوم العلمي لذلك ولمجريات الأمور في الواقع المصري، أي "استخدام أي طريقة للتحكم في فكر شخص واتجاهاته دون رغبة أو إرادة منه، ويسمى أيضا غسيل المخ أو لحس المخ (أو الدماغ) أو التفكيك النفسي".
وخرجت عشرات البرامج لتدير "مكلمة" لا هوادة فيها، تستهدف بلبلة المشاهد وتفريغه من أفكاره وثوابته ومبادئه ومفاهيمه، واستنزاف مشاعره وأحاسيسه، وتحميله أخرى يرى من خلالها القبيح حسنا، والردئ جيداً، والخطأ صواباً، والحق باطلا في مؤامرة يديرها مذيع هذا البرنامج أو ذاك، فيما يتصور أنه بطل يؤدي دورا وطنيا ورسالة قومية نبيلة، وفي الحقيقة هو يرتكب جرما وإثما عظيمين ضد الوطن أكثر إجراماً وإثما مما يرتكبه البطجية في إشاعة الفوضى وبث عدم الأمان والاستقرار.
لكن المسئولية الكبرى تقع على عاتق من وفروا الظروف الملائمة لذلك، من خلال صناعة الأزمات أزمة تلو الأخرى، وإشاعة الفوضى والتهديد المستمر لأمن المواطن، وتمكين البلطجية في مختلف المجالات من ممارسة أقصى درجات العنف والتخبط، يشاركهم في هذا غياب تيار سياسي وطني له برنامج واضح يوفر بيئة صحية للعقل المتابع، فإذا نظرنا إلى عملية غسيل الدماغ وفقا لذلك، وجدنا أن الحقيقة العلمية تطابقها شكلا ومضمونا، حيث تقول "إن الإنسان عندما يتعرض إلى ظروف قاهرة وصعبة تصبح خلايا مخه شبه مشلولة عن العمل والمقاومة .. بل قد تصبح عاجزة عن الاحتفاظ بما اختزنه من عادات، لدرجة أن مقاومتها للأذى والتهديد الواقع عليها قد ينقلب الى تقبل أشد واستسلام أسرع للإيحاء ولعادات جديدة أخرى وانعكاسات غريبة قد يتصادف حدوثها في تلك اللحظة".
هذا بالضبط ما يجري في ظل تناحر وتصارع وتسابق قاتل ومميت على ملء فراغ اصطنعه النظام السابق وعاش عليه، واتخذته برامج الفضائيات جنباً إلى جنب الكثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، منصة للحس الدماغ المصري، لتتبارى البرامج ومقدميها وضيوفها من كتاب مشهود لهم بالكفاءة في التلون والتلوث، ولا أظن أنها قامت بذلك دون نوايا قصدية مبيتة، ربما تصوروا أنهم يتاجرون لحصد أكبر قدر من المكاسب الخاصة سواء مادية أو شهرة، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا ولا يزالون يقومون بعملية إجرامية ـ غسيل دماغ ـ على شعب عاني على مدار ثلاثين عاماً، ولا يزال من العوامل التي تؤدي إلى الغسيل المنظم وفي مقدمتها الصدمات النفسية المفاجئة، والتهديد المستمر في أمنه ولقمة عيشه، والمواقف الشديدة المرعبة كالصدام بين الجيش أو الشرطة والشعب وسقوط ضحايا، كذلك واقع تحت ضغط الإرهاق العصبي المستمر كالسهر المتواصل أو النوم المتقطع قلقاً وتوتراً على مصير الوطن، والذي تترتب عليه الآلام الجسمية والنفسية الشديدة.
حتماً هناك استثناء، حتماً هناك مخلصون وطنيون يعملون بحرفية تنأى بهم وبأفكارهم ومناقشاتهم عن شبهة الإجرام، لا يبغون إلا تنوير المواطن وتقديم صورة صادقة وشفافة، لكن الغلبة للمجرمين المتحولين، وهنا أصفهم بالإجرام، لأن ما يرتكبونه من عملية "غسيل دماغ" يدخل في باب المنهجة والتنظيم المقصودين، وآثاره التي باتت واضحة ضد العقل والوجدان المصريين وتجعله عملية إجرامية بامتياز، ولن يرحمهم التاريخ إذا قدر لمخلص رصد وتحليل ما قدموه خلال هذا العام والنصف.
في إطار هذه الرؤية أدعو جموع المصريين بمختلف انتماءاتهم إلي المزيد من اليقظة والتنبه والحذر والحيطة في تلقيهم لما تبثه وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها بما فيها ما يتفقون معه أو يختلفون، والربط ما بين الماضي والحاضر، وألا يعولوا كثيرا على ما يتردد في بعض هذه الوسائل وفي الشارع الممتلئ بمجموعات عمل توجه الرأي العام لصالحها، خاصة في ظل الاستقطاب الشديد الذي تمارسه مختلف القوى والتيارات والأحزاب السياسية في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ مصر.
وإلى ضمير الإعلام تذكر أن ما تقدمه الآن يستطيع العبور بمصر إلى مستقبل قائم على إرادة حرة ونزيهة نابعة من صوت العقل والضمير خالية من أي تشوهات، أو هدم وحدة المصريين الإنسانية والوطنية واستمرار حالة التخبط واللاوعي بما يؤدي إلى أن تظل مصر "محلك سر"
ساحة النقاش