شادية
كتبت : منال عثمان
«ومولع لك شمعة نورها مستنيك .. سيب الجرح ليه وخلي الفرح ليك»، لا نستطيع ياعزيزة القلب والروح أن نتركك وحدك في الجرح لو أستطعنا لقفزنا حولك نستجدي أطباءك أن يأخذوا لك من الدم أطيبه، ومن الروح أزكاها، من النبض أروعه ومن لنا أعز نلتف حوله ونعطي، لا تشكي لحظة وأنت في ديارك البعيدة التي أخترتها أنك صففت الحواجز .. أو لملمت حبا عميق الجذور من القلوب .. لا يا شادية أنت كما أنت نبضة باسمك في القلب
لافتة لا تعلوها الغبارات فى دنيا مشاعرنا .. حملنا لك حبا رائعا جعلنا نتقبل كل قرارتك حتى قرار الاعتزال لاتجاهك الروحانى، كنا نطمئن أنك اخترت الطريق الأروع فى رعاية الله وحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نتسقط أخبارك ونروى ظمأ الوحشة سنيناً طويلة بندى أعمالك الرائعة، تركت لنا ما لا يجعلنا أبدا نشكو الحاجة لفن جيد .. أعطيتنا حتى آنت الطاقة وطلبت الراحة .. فسفر فنك متعدد الصفحات غزير السطور لم نمل أبدا الغرق فيه .. أينما صوبنا النظر نجدك فوق قمة .. هذا هو موقعك دائما الذى حملتك إليه شخصيتك وموهبتك وروعتك وطيبتك وانسانيتك وصوتك الشجى، فأنت لا تصلحين رقماً فى صف .. أنت شادية أروع من غنى ومثل .. أنبغ من غنى لمصر من داخل تلافيف قلبه، قطرت دمعة من أجلها فى «يا أم الصابرين» وضحكة من أجل عيونها فى «مصر اليوم فى عيد» وظلت أنشودتك التى هى ككسرة الخبز وشربة الماء للمصريين «يا حبيبتى يا مصر» غزلك الوطنى الرائع الذى نلتف به فى كل لحظة انتصار حتى ولو كان كرويا، وكانت تدوى فى التحرير وكل الشوراع والميادين فى مصر ونحن نجهر للعالم بثورة يناير .. فتشوا فى كل أغانينا عن أغنية تعبر عما يجيش بـصدورنا فلم يجدوا أنسب من «يا حبيبتى يا مصر» .. لم يجدوا إلا أنت «ياست فاطمة» وتخرجين لنا فى ليلة عصيبة بعد سنوات صمت تعبنا من عدها .. تقولين.. تدعين لمن أحببتها طوال العمر، لم يخرجك من بوتقة العشق الإلهى إلا لحظة ناجيت ودعوت فيها الرحمن لينقذ مصر .. كل من سمعك بكى حنيناً، لا أعرف أم ذهولاً، من كونك ترفضين كل دعوات الظهور حتى ولو صوتا .. لكن عندما حدق الخطر بمصر نادتك، فأتيت ملبية داعية .. شهور طويلة قضيتها كما عرفنا، يخفق القلب ويلهث اللسان بدعوات لمصر.
حتى صمت اللسان أياماً طويلة وأنت مسجاه تحت وطأة هذا الالتهاب الرئوى اللعين .. ويقسم من عاش اللحظة بجوارك أن حين تتركك الغفوة قليلاً تسألين عن أحوالها .. أحوال مصر .. يطمئنونك فلا تقولين إلا يارب.. يارب .. يارب يهبك الشفاء يا شادية .. يارب خذ بيدها كما دعتك فى آخر أغانيها قبل أن تغلق الباب وراءها وتقول سلاما .. ولم تقل أبدا فراقا، فقد ربطتنا بخيط ذهبى أجيالاً وراء أجيال بهذا المعين من الفن المبهر الذى بدأته فاطمة محمد شاكر وهذ اسمها الحقيقى المولودة فى الثامن من فبراير 1928، من جذور تركية لم تفرقها لحظة عن مصريتها العالية النبرة التى شهد بها الكل، لأب موظف «مفتش زراعة» فى وزارة الرى يتنقل فى أماكن عدة لممارسة وظيفته، وشقيقة لعفاف ومحمد وطاهر وسعاد، وشقيقتها الكبرى عفاف يجوز هى أو من فتح أول زهرة لعشق شادية للفن، فقد كانت تحبه وتهواه ومارسته رغم رفض الأب فى أكثر من عمل، فعفاف شاكر لعلكم تتذكرونها مثلا كانت ابنة نجيب الريحانى فى فيلم «أحمر شفايف» وضرب عشق الفن فاطمة شاكر فى مقتل، فما كانت تتصور أن تحيا يوماً دون أن يلتف حولها الكل، بدءاً من عائلتها ونهاية بصديقاتها، خاصة عندما انتقلوا من «انشاص» حيث ولدت، إلى شارع حسن الأكبر فى عابدين فى الأربعينات، وفى ليلة دعت العائلة المطرب التركى المشهور «حكمت نور» لتناول العشاء فى منزلهم، وغنت شادية أمامه فبُهر الرجل وسأل الأب: هل علم ابنته أصول الغناء على يد أحد من الأساتذة؟ فنفى تماما بل أكد أنه لا يشجع أحداً من أولاده على ممارسة الفن، ولايعرف من أين أحبوه! فأوصاه المطرب المشهور بأن يهتم بابنته فنياً، فهى ممتازة ولو مارست الفن ستصبح ذات شأن كبير، ولم يهتم لكن ظلت «فاطمة» على حالها تغنى إلى أن عرفت من صديقة للعائلة أنهم يطلبون فتاة للغناء فى فيلم «أزهار وأشواك» دون ظهور أو تمثيل، وألحت شادية وذهبت وفازت بالفرصة، وأثناء مونتاج الفيلم كان حاضراً المخرج حلمى رفلة، فأعجب بالصوت وطلب أن يرى الفتاة، فأعجبه جمالها وذهب للأب الذى وافق على مضض، وظهر للنور ميلاد الرائعة شادية وهو الاسم الذى أطلقه عليها «حلمى رفلة» فى فيلم «العقل فى أجازة» سنة 1948 مع محمد فوزى والمخرج محمد عبد الجواد، واستقبل الفن وأهله هذه الفتاة الموهوبة بالكثير من الغبطة، وانطلقت كالصاروخ منذ 1948 تقدم لوناً أبدعت فيه بقوة الفتاة الشقية، وكان هذا آوان ظهور النجم الراحل كمال الشناوى أيضا، فكونا ثنائيا عبقريا بأفلام عديدة جداً، وكان كمال قد تزوج «عفاف» أخت شادية رغم أن الشائعات كانت تربطه بها هى، ومع سنوات الخمسينات وبزوغ نجم شادية بأكثر من فيلم، التقت بفتى السينما الرزين عماد حمدى الذى كان لتوه خارجا من تجربة طلاق زوجته الأولى الفنانة «فتحية شريف» فأحب «البنبونة» كما كانوا يطلقون على شادية وتزوجها وأثمر الارتباط عن شركة إنتاج سينمائى قدما من خلالها أفلاما عديدة مثل «ليلة من عمرى» و «مع الذكريات» وغيرهما، لكن عوامل عديدة أعاقت استمرار هذه الزيجة لعل أهمها انشغال الطرفين وفارق السن، وانفصلا دون غضب فقد ظلا صديقين حتى آخر لحظة فى حياة «عماد» وكانت دائمة السؤال عنه فى مرضه .. والتقيا أيضا فى أفلام بعد الطلاق .. مثل «المرأة المجهولة» و«عفريت مراتى» و«ذات الوجهين» وغيرهم، وتطرز شادية ثوب السينما بأفلام غنائية عدة فى فترة الخمسينات، وتلتقى الموسيقار الراحل فريد الأطرش فى فيلمين «أنت حبيبى» و «ودعت حبك»، وهذا الفيلم الأخير لم يلق نصيبه الجيد بسبب العدوان الثلاثى سنة 1956، وفى هذه الفترة انتعش قلب «البنبونة» بقصة حب جديدة مع الموسيقار وكانت قصة رقيقة أحبها الوسط الفنى كله .. لكن الموسيقار دائما كان يعطى لنفسه ألف حق أن يحب .. وألف مهرب يجده حين يجابه بطلب زواج ورغم حبه لشادية هرب إلى الخارج مسافراً فى رحلة فنية طويلة .. فانتقمت شادية الطيبة التى لا تحتمل على كرامتها أية إساءه بزيجة سريعة من مهندس فى الإذاعة اسمه «عزيز فتحى» وكان ابن شقيق الفنانة ميمى شكيب وشقيق الشاعرة شريفة فتحى، وسرد أكثر من مؤرخ عن دموع «فريد» بعد زواج شادية وندمه عليها .. وانتهت الزيجة أيضا سريعاً لاختلاف الميول لتتفرغ شادية بعدها للسينما تماما وتقدم روائع لا يمكن أن ننساها مثل «شباب امرأة» و «غلطة حبيبى» و «أرحم حبى» و«لوعة الحب» و«الزوجة 13» و«امرأة فى دوامة».
وقد أثبتت فى هذه الآونة أنها كممثلة لا تقل أبدآ عنها كمطربة، فقد خاضت تجارب عدة كانت فيها ممثلة فقط دون أن تغنى، فى «اللص والكلاب» و «الطريق» و«ميرامار» وغيرهم .. وفى عام 1965 التقت بنجم السينما صلاح ذو الفقار، الذى كان قد قدم بطولة أمامها فى عام 1956 عندما ترك الشرطة ليعمل بالتمثيل في فيلم اسمه «عيون سهرانة» ولم يكن بينهما غربة فهما يعرفان بعضهما ولا حاجز، فسطر الحب رسالته من جديد لشادية لترتبط بصلاح ذو الفقار فترة لا تقل عن 8 سنوات، وحملت خلالها أكثر من مرة لكن لم يكتب الله لها أمومة أو إنجابا، لكن كتب نجاحا جديداً لثنائى كونته مع صلاح بأفلام «أغلى من حياتى» و «مراتى مدير عام» و«كرامة زوجتى» وعفريت مراتى، وأنتج لها رائعتها مع حسين كمال «شىء من الخوف» وفى لبنان قدما معا سنة 1971 فيلم «لمسة حنان» لتكون هذه السنة خاتمة زيجة أعطتها شادية الكثير من الحب لتدوم، وفعل صلاح أيضا لكن هى الظروف أو النصيب لا أحد يعلم، لتعود شادية لتنغمس فى العمل من جديد سواء للسينما أو الإذاعة أو الأغانى فتاريخها يؤكد أنها قدمت 650 أغنية وتعاملت مع كل مؤلفى وملحنى عصرها دون استثناء وتنوعت دائما أغانيها ما بين خفيفة وقصيرة وطويلة على المسرح وقد فاضت دموعها يوما أمام جمهورها على المسرح، وهى تغنى «قال لى الوداع» فكتب فى اليوم التالى الراحل على أمين موده «مالك يا شادية» وشاركت فى أوبريتان وطنية عديدة مثل الوطن الأكبر والجيل الصاعد، وقدمت للإذاعة أعمالا عديدة مثل «جفت الدموع» و«صابرين» و«نحن لا نزرع الشوك» و«الشك ياحبيبى» والآخران قدمتهما أيضا للسينما.. ووقفت على المسرح بدعوة من المنتج سمير خفاجى لتقدم لأول مرة مسرحية فى بداية الثمانينيات «ريا وسكينة» مع القديرين سهير البابلى وعبد المنعم مدبولى وحققت نجاحا لا نظير له.. وفى ليلة من الليالى المحمدية وقفت شادية لتغنى من شعر علية الجعار سنة 1987 (خد بأيدى) لتقرر بعدها اعتزالا لم تحد عنه قيد أنملة ولم نحد نحن لحظة عن حب شادية فى القرب أو البعد ففى أعناقنا جميل لها يشبه جميل العشرة الحلوة أو العيش والملح.. فلو فتشت فى تكوينات أية قصة حب حلوة ستجد أغنيه لشادية.. أية لحظات سعادة ستجدها شريكة .. أىة ضحكة أو دمعة أو نصر أو انكسار أو فراق أو لقاء أو ترحال أو لحظة وطنية فاصلة ستجد صوتها يملأك .. فمن يهبنا كل هذا نتركه فى جرحه ومرضه!!
شادية قاومى من أجلنا فنحن لا نعرف هواء ليس به أنفاسك حتى ولو بيننا مئات الأميال...
اشفيها يارب.
ساحة النقاش