فى الصعيد الكبيرة
زادتها الأيام خبرة ومنحتها السنون حكمة
كتبت : نجلاء ابو زيد
يشهد عليها عمرها الطويل، وخصلات شعرها الفضية تنسدل جدائلها أمامها كانهمار دموع عينيها على أيام ظلت متمسكة خلالها بمكانة كبيرة وسط الأسرة، الى ان فوجئت ان المولد ينفض من حولها يتفرق الأبناء تتفتت الأسرة الكبيرة تنهار صورة البيت الكبير الذى طالما كان الملجأ والملاذ للأبناء ومشكلاتهم بل كان مفتوحاً للأهل والأقارب والمعارف ،منصب عرفى احتلته المرأة تقلدته كثيرا إلى ان جاء الوقت ليتراجع دور الكبيرة تلك السيدة التى تعد صاحبة الرأى والمشورة «سيدة القصر فى الصعيد» الذى علا صوتها حكمة فى حل الكثير من المشكلات فى هوادة وترو ليعلو صوت الأنا والنزعة الفردية الشخصية لتردد فى هذا الخضم والزخم العشوائى «اللى مالوش كبير يشترى له كبير».
كان هذا التحقيق للاقتراب من الواقع وتصويره للبيت الكبير الذى تقلص دوره وبالتالى دور الكبيرة فى المجتمع الصعيدى
مجرد ذكرياتفى البداية تقول صفية على - موظفة من إحدى قرى سوهاج - تغير الحال كثيرا فى البيوت الريفية، بل اختلف شكل الحياة الاجتماعية ككل عن الفترات السابقة، لم يعد نموذج المرأة الكبيرة موجود بنفس قوته واثره فى الماضى وأصبح وجوده نادرا بسبب حرص الإنسان أن يستقل بحياته وزوجته واولاده دون تدخل عائلى بنسبه كبيرة، وتجنبا لحدوث اى مشكلات تأتى نتيجة تجمع الإخوة فى معيشة واحدة تحكمهم كبيرة الدار والصراع الدائر حتى لو كان بشكل خفى بين زوجات الابناء واشتباكات الصغار.
اختلاف أجيال
أما إكرام رمضان -جامعية من محافظه أسيوط - تقول : هناك اختلاف واضح بين الأجيال فى أسلوب الحياة وطريقه التفكير فالفتاة حاليا تحلم بأن تعيش حياة مستقلة تحقق امنياتها مع شريك الحياة لا أن تتحكم فيها سيدة أخرى تحيا من خلالها وترضخ لأوامرها، أصبح هذا دربا من الخيال خاصة بأنها ترفض الإقامة فى بيت العائلة بعيدا عن المشاحنات لتشعر بذاتها .
وترى منى سعد - محامية - أن اتجاه الفتاة للتعليم بصورة كبيرة فى الصعيد وراء اختفاء شخصية الكبيرة والشكل التقليدى للأسرة الممتدة وإقامة الابناء والاباء والأحفاد فى تركيبة اجتماعية واحدة، يحاول الكل أن يصارع من أجل الحياة، كان الابن لايجد بداً من الرضوخ فى النهاية لرأى الشخصية الكبيرة فى الأسرة المتمثله فى الأم أو الجدة صاحبة الرأى الصائب ، إلا انه نتيجة التطور الاجتماعى الحادث وانتشار الإعلام بشكل مسيطر غير الكثير من الأفكار القديمة، أصبح للزوجين الرأى المستقل والآمال المشتركة التى يسعيان لتحقيقها معاً وهى على خط معارض تماما لحياة الست الكبيرة التى تجنح إلى التقليدية والبعد عن أى مغامرة والسيطره على مقاليد الأمور.
يشاركها الرأى ياسين على -محام- من مركز أخميم بسوهاج قائلا : رغم انحسار دور الكبيرة فى كيان الاسرة الصعيدية إلا أنها لها كل الاحترام متمتعة بالوقار، لأنه يصعب تجاهل الكبير فى سياق الحياة الاجتماعية لذا يجب أن نستفيد من خبرتهم وحكمتهم عبر الايام رغم تقلص دورها نتيجة انشغال الابناء بالعمل والإقامة فى محافظة أخرى أو حتى خارج البلاد، كما أن الرجل لايتحمل أى مشاحنات بين الأم والزوجه نتيجة احتكاكات الحياة فيفضل الانعزال فى معيشة مستقلة تجنبا للمشاكل، من هنا تتأثر سيدة المنزل الكبيرة وتشعر أن دورها انتهى .
تطرق ايمان محمد من محافظة الاقصر باباً جديداً فى المناقشه تقول : داخل كل فتاة فضول غريب لحياتها المستقبلية ترى كيف تسير بها، كيف تتكيف مع الظروف المادية والمعنوية المختلفة تماما عن أسرتها تريد أن تنقب عن دهاليز الحياة الجديدة، تمسك مفاتيح أسرار سعادتها الاسرية مع زوجها وأولادها، كيف ترسم المستقبل وتحقق ما كانت تصبو إليه فى هذا كله لا ترى شخصا آخر معها أو تسمع صوتا مخالف لها، بل تريد أن تكون هى الكبيرة فى مملكتها الخاصة ترسم أسلوب حياتها بريشتها لا بأياد اخرى.
كان لابد من الحديث مع نموذج لسيدة من الزمن الجميل الذى تحمل أيامه عبق الماضى بكل نسماته العطرة الحاجة زينب أحمد حسن من قرية المحامدة بسوهاج وهى فى السبعين من عمرها تقول بابتسامة هادئة : ربيت أولادى الستة وأكملت رسالتى معهم، كنت أمسك زمام كل أمور الحياة فى يدى وأتحمل المسئولية مع زوجى، مثلا فى موسم الغلة كنت أخزنها وابيعها فى وقت الازمات كما أشترى الجاموسة وأرعى شئونها لأنها تمثل مطبخ البيت فى الصعيد، أتولى حلب اللبن وصناعه الجبنة القريش وكنت أعالج كل أمورى بالحب والحنان، استشير كل من حولى زوجات ابنائى هن بناتى وأزواج البنات كلهم أولادى لأننى أرى دائما أن الست الكبيرة ليست بالسيطرة وتنفيذ الأوامر سواء كانت صائبة أو خاطئة، إنما الكبيرة بأفعالها وحنوها على الأخرين البيت، كان مفتوحا للجميع كل من معها مشكلة من السيدات تريد أن تجد حلا لها تأتى ولا أتأخر عنها أو أبخل برأيى أو مشورتى تجاهها فأنا أؤمن بالديمقراطية فى البيت، تعلمت هذا من خلال الاذاعة وبرامج التليفزيون لأننى أتابع السياسة والنشرة الإخبارية باستمرار رغم عدم تعليمى
- في رأيك هل يمكن أن تعود الست الكبيرة فى الصعيد مرة أخرى؟
لايمكن أن يعود الزمن للخلف مرة أخرى بل لابد أن نعطى البنات فرصة للحياة لكن لنا عليهن حق النصيحة والاستماع إلينا لأخذ الخبرة التى قد يبحثن عنها، مستقبليا ربما لن يجدن من يخاف عليهن ويمدهن بالنصح .
الكبيرة .. اليوم
وعلى الجانب الآخر لتطور الحياة الاجتماعية فى الصعيد كان اللقاء مع نفيسة علام -محامية بمركز اخميم بسوهاج- تمثل نموذجا لشخصية الكبيرة بمتغيرات اليوم تستهل حديثها قائلة :فى الماضى كانت الكبيرة هى كبيره سنا متمثلة فى الأم او الجدة حتى لو أن الزوجات فى أسرتها أصبحن حموات لكن هناك تبعية وولاء للكبيرة ،تبدل الحال اليوم أصبحت من تمثل الكبيرة تتمتع بثقافة واسعة ومعلومات زاخرة وليس فى إطار التقدم العمرى وإنما من خلال تأثيرها فيمن حولها، كما أن لديها كاريزما خاصة وقبول وحكمة فى التصرف فى كافة المواقف المختلفة. ومن خلال تجربتى والممارسة العملية لدراسة الحقوق وعملى بالمحكمة وتمتعى بروح القيادة للفصل فى أى مشكلات بالإضافة إلى الشخصية القوية كلها سمات ورثتها عن والدتى التى كانت تتحلى بهذه الصفات والكل كان يلجأ إليها للفصل فى المشكلات قديما، كما أن من يتمتع بشخصية الكبيرة هذا المنصب العرفى فى الصعيد لابد أن توارى النزعة الذاتية تماما سعيا وراء إرضاء الآخرين والإحساس بهم وبمشكلاتهم، أحاول دائما أن أكون على هذه الصورة الإنسانية أسعى للصلح دائما حتى فى عملى كمحامية لابد من تقديم النيات الطيبة .
- دورك ككبيرة ماذا يتطلب منك؟
يحتاج كثير من المجهود وهو تأهيل ربانى اقضى ساعات طويلة من يومى لممارسة الخير والعمل الاجتماعى . أنظر إلى هذا الأمر أن الله سبحانه وتعالى وهبنى طاقة كبيرة لابد أن أوظفها من أجل الآخرين طالما امتلك القدرة على ذلك لأداء دورى المجتمعى غير المنفصل عن السيدات دائما لأننى أعتبر نفسى اقوم بعملية تقويمية وهو الدور الأول والاساسى الذى تحتاجه المرأة .
- ما السبب فى اختفاء الكبيرة فى البيوت الصعيدية ؟ تواصل الحديث قائلة : المرأة لديها ثقافة اجتماعية منذ القدم رغم عدم خروجها، فكانت الاجتماعات الأسرية تتم داخل البيت تتولى الفصل فى المشكلات أو الأمور المصيرية كالخطبة والزواج من خلال هذه الجلسات الاجتماعية، هذه الصورة نجدها الآن غير متواجدة فقط نحتفظ بها فى الذاكرة، نجد زوجات الأبناء أصبحن مستقلات عكس الوضع الاول الجميع يعيشون حياة واحدة يتقاسمون الطعام والشراب أما الآن أصبحت المرأة تبحث عن فرصتها فى صنع كيان مستقل ومميز لها.
الكبيرة في مصر القديمة
عن كيفية ووجود شخصية المرأة الكبيرة فى مصر القديمة يكشف عنها النقاب محمد فرج - المعيد بقسم الآثار آداب سوهاج - يقول : تميزت المرأة بمصر القديمة بمكانه رفيعة جدا يظهر ذلك جليا من خلال اثنتين أثرتا فى التاريخ الأولى تتى شيرى والدة الملك أحمس الأول والملك كارلوس من خلال مساندتها لأبنائها فى تحرير البلاد وتقديم الآراء والنصائح بالنسبة للحروب وتقوية الروح القتالية للجنود كما أنها لعبت الدور العظيم مع زوجها سقنن رع أول من قاد الكفاح المسلح ضد الهكسوس وقتل بالفأس فى رأسه. واعتقد ان تتى شيرى نموذج للمرأة القوية ذات الشخصية التى تواجه الظروف الاجتماعية ويمتد تأثيرها لكل سيدات مصر قديما .
كما ظهر نموذج الملكة تيى زوجة الملك أمنحتب الثالث والدة اخناتون والتى كانت من عامة الشعب لم تكن من أسرة ملكية لكنها تمتعت بالكاريزما والشخصية القوية تركت أثرها على مختلف مناحى الحياة الاجتماعية.
كما يظهر مثال الملكة حتشبسوت للمرأة التى تتحمل عبء قيادة الجيش وإرسال البعثات إلى بلاد بنت فكانت بمثابة رئيسه دولة كان لها اثرها المميز فى أسرتها نفسها، ومن هنا تقبلها الشعب رغم صعوبة الامر ان تحكمهم امراة تقنعهم. ومن هنا نجد ان المراة المصرية توارثت النماذج الناجحة لنجد شخصيات نسائية تتبوأ مكانة عاليه فى مجتمعها بفعل العرف والتقاليد.
كان لابد من الاقتراب لعلم الاجتماع لمعرفة سبب اختفاء الكبيرة من المجتمع الصعيدى من خلال اللقاء مع ا.د. عبد الرءوف الضبع - أستاذ ورئيس قسم الاجتماع بآداب سوهاج- يقول : نرى سبب هذا الاختفاء انه وضع طبيعى للتطور من نمط الأسرة الممتدة التى تقوم على المكانات والأدوار، فكانت الجدة او الأم تتعدد أدوارها مابين ادوار تربويه واقتصادية وأخرى اجتماعية، ومابين المكانة التى تحتلها التى ترجع إلى ذلك الدور الذى تؤديه، وحينما تغيرت الأحوال وتبدلت وحلت الأسرة المنغلقة علي نفسها محل الأسرة الممتدة اختلفت كل الأدوار والمكانات فانخفض دور هذه السيدة الكبيرة وتغيرت الدنيا من حولها اختلفت المسألة بحكم وظائف الأسرة خاصة الوظائف الاقتصادية التى كانت تقوم المرأة خلالها بتوفير احتياجات المنزل بالإمكانيات المتواجدة لديها وبالت إلى فقدت الأسرة الممتدة مكانة الست الكبيرة .
ساحة النقاش