السيدة زينب.. الثائرة العظيمة

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

ما أحوجنا في هذه الفترة الفارقة من تاريخ بلدنا وأمتنا أن نتدارس سيرة عظمائنا حتى تكون لنا نبراسا يهدينا إلى سواء السبيل لو أردنا فلاحا.. وفي رحاب عقيلة بني هاشم الطاهرة ابنة الإمام علي كرم الله وجهه وبضعة الحبيب المصطفى الزهراء فاطمة، سنجد من الدروس ما لا تفي السطور هنا بتحصيله، لاسيما وأن مصر كانت تحتفل هذه الأيام بالمولد الزينبي، فقد كانت هذه السيدة العظيمة بحرا يحير من ينهل منه،كانت عالمة وخطيبة مفوهة، كانت ثائرة،مجاهدة، عابدة متبتلة، قائدة،كانت أما حانية وابنة بارة وسندا قويا لمن أراد أن يحتمي..ولكثرة مناقبها الشريفة تعددت أسماؤها، فهي أم هاشم لأنها كريمة كجدها هاشم، وهي أم العزائم، لعزيمتها القوية في طاعة الله، وهي أم العواجز لأنها كانت تفتح دارها لكل محتاج، وهي أيضا رئيسة الديوان لأن والي مصر وأعوانه من كبار القوم كانوا يهرعون لمشورتها في ديوانها ولذا سميت أيضا بصاحبة المشورة، وهي عقيلة بني هاشم، وهي الفقيهة العابدة حيث كان المصريون يتوافدون إليها يتقدمهم أهل العلم يستمعون منها إلى تفسير آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويسألونها في أمور دينهم، وهي أيضا بطلة كربلاء حيث جاهدت مع أخيها الإمام الحسين وكان لها دور بارز في هذه المعركة بما ذكره التاريخ بأحرف من نور ونار.. فهي أنشودة صبر وجهاد وعلمٍ قلما يجود الزمن بمثلها.

كانت مثلا للصبر والجلد على أحداث الدنيا، فطوال عمرها الذي لم يزد على سبعة وخمسين عاما، لم تنل الراحة إلا في أعوامها الخمسة الأولى فقط، لتصبح حياتها سلسة من الجهاد والصعوبات والمصائب التي يبتلي بها المؤمنون فلا تزيدهم إلا ثباتا.

ولدت السيدة زينب في العام الخامس من الهجرة على أرجح الأقوال، وهي أول طفلة أنثي يحتفي بها بيت الزهراء عليها السلام لتصبح السيدة زينب حبيبة جدها صلى الله عليه وسلم وتنهل من حدبه وعطفه وتترعرع بين يديه الشريفتين، تعلقت السيدة زينب بجدها الحبيب، وقد كان بيت الزهراء هو الواحة الحبيبة لقلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكانت رياحين البيت المتمثلة في سيدي شباب أهل الجنة -الحسن والحسين- والسيدة زينب هي مرفأ عواطفه، لذلك كان بيت الزهراء هو آخر بيت ينطلق منه لسفره وهو أيضا أول محطة يصلها بعد عودته، ولذلك أيضا كانت صدمة فراقه صعبة على قلبها البرعمي الذي لم يتجاوز الأعوام الستة، هكذا وجدت السيدة زينب نفسها وقد بدأت أول المحن بفقد جدها الحبيب،وما زاد الألم أكثر أن السيدة فاطمة الزهراء لم تستطع تحمل رحيل الحبيب فظلت بعده تعاني لوعة الفراق، وكان كل ذلك أمام السيدة زينب تعانيه معها، ترى أمها تذبل أمام عينيها ولا تستطيع إلا الصبر والألم وانتظار المجهول، لتأتي الصدمة الثانية بعد شهور قليلة فتصبح السيدة زينب يتيمة الأم محرومة من عطفها وحضنها في هذه السن الصغيرة، ولتتجرع ألم الفقد مرة أخرى، فتقول وهي متعلقة برداء أمها:"الآن عرفنا الحرمان من النظر إليك يا رسول الله"، ولأنها سليلة بيت النبوة فهي تعرف مهمتها، فلم يشغلها حزنها ولم يعطلها صغر سنها أن تكون مسئولة عن بيت أبيها، وقد عمقت صفاتها هذه حبها في قلوب أخويها ووالدها فصاروا لا يمكنهم الاستغناء عن صحبتها، حتى أن والدها الأمام علي بن أبي طالب استبقاها معه في بيته هي وزوجها - ابن أخيه-لأنه لم يكن يطيق البعد عن فلذته، وكان يعتمد على رجاحة عقلها وعمق علمها ، فعندما ذهب للكوفة ليصبح أميرا للمؤمنين اصطحبها وأهل بيته وعهد إليها بتعليم النساء في الكوفة وكان لها مجلسها العلمي في بيتها...وشاء لها الله أن تعيش ثلثي عمرها مع والدها وتتجرع معه المصاعب التي اعترضت مسيرته الإصلاحية، فقد لمست ما تم معه من تعويق رسالته في نشر العدالة والمساواة والحق حيث كان الانتهازيون وطالبوا الدنيا والحاقدون يعرقلون هذه المسيرة ليشغلوا الأمة في معارك أضاعت الفرصة الذهبية التي أرادها الإمام علي لأمة المسلمين...وجاءت ليلة التاسع عشر من رمضان لتشهد مأساة جديدة تدمي قلب السيدة العظيمة، فقد كان والدها يتناول الإفطار عندها، ثم غفا ليصحو بعد ذلك يتوضأ ويستعد للصلاة، لكن السيدة أصابها بعض القلق لما لمسته، فوالدها الحبيب على غير عادته، وكأنه ينتظر شيئا، لقد عرفت ما كان ينتظره عندما وصل إليها خبر اغتياله على يد أحد الخوارج بالمسجد، ابك يا قلب ولا تسكتي يا عين، فقد ذهب السند وراح المعلم ورحل الحبيب، لكن لابد من الصبر فمازال المشوار طويلا لاسيما أن شقيقها الإمام الحسن صار يواجه المصاعب، فرغم مبايعة المسلمين له إلا أن الأمر استلزم منه التنازل حقنا لدماء المسلمين، وقد تنازل على شروط، أولها أن يتم الحكم من قبل ما نازعوه الحكم بشرع الله وسنة نبيه، وألا يتم ظلم الناس ، وأن تكون الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن أو من يختاره المسلمون.. وهكذا وجدت السيدة زينب نفسها مع الأسرة النبوية الشريفة تودع الكوفة لتعود مرة أخري لمسقط رأسها،ولكن هناك من الأحداث ما ينتظرها هناك، فهي تشهد بعينيها موت أخيها الحبيب سيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسن، هل مازال في المآقي دمع يسعف الحزين؟ ألا توفري بعض هذه الدموع الغالية لأحداث جسام سوف تمر بك أيتها السيدة العظيمة.. لقد كان الله يعد السيدة زينب للرسالة الكبرى بهذه الأحداث الجسام، فأمامها دور عظيم ينتظرها، وهو ما بدأت تظهر خيوطه الأولى عندما جهز معاوية ليستخلف ابنه يزيدا أميرا للمؤمنين مخالفا بذلك للعهد الذي ابرمه مع الإمام الحسن، كما أن يزيدا بشهادة الجميع والتاريخ كان من الفاسدين، لذلك اعترض كبار الصحابة على تولية يزيد، ورفض الإمام الحسين مبايعته، ومات معاوية، لتكبر المشكلة أكثر وأكثر.. وإزاء ما يحدث تفاعل أهل الكوفة مع موقف الإمام الحسين وكتبوا له يعلنون بيعتهم واستعدادهم لنصرته حال ما يصل للكوفة، واستعد الإمام الحسين للاتجاه للكوفة تلبية لنداء المسلمين، وأخذ معه شباب العائلة، خيرة شباب الأرض ورياحينها، وأصرت السيدة زينب على الذهاب مع شقيقها، فقد شعرت بالقلق، فأهل الكوفة أنفسهم من عانى منهم والدها من قبل ومن تميعت مواقفهم في مؤازرة الإمام الحسن، لذلك فطنت بعقلها الراجح أنه قد تكون ثمة مشكلات قد تعترض شقيقها فأرادت أن تكون بجانبه، وعندما حاول العباس أن يقنعها بعدم الذهاب قالت: "نذهب معا أو نبقى معا فلم يعد لنا أحد بعده" تركت بيتها وعائلتها وذهبت للمجهول تشد على يد أخيها وتشاركه جهاده، وذهب معها ابنها عون الذي سيستشهد أمام عينيها في مذبحة كربلاء.. التحقت السيدة زينب بالقافلة الحسينية غير عابئة بأي نتائج قد تكون مهددة لأمنها أو حياتها، فالحق أولى بنصرته والعمر مبذول في سبيل رسالة آمنت بها.. ونصرة الثائر المنصف تستحق أن نبذل في سبيلها الغالي والثمين، وبذلك انتقلت من المدينة إلى مكة ومنها إلي كربلاء تتعهد بالرعاية نساء القافلة وأطفالها، وقد كانت القافلة في البداية تتصور أن الأمر استقر للإمام الحسين ولم يدر بخلدهم المصير الذي سوف يداهمهم، فقد تم تغيير ضمير الكوفيين بتنفيذ أشد آيات القمع والتنكيل وتم تغيير الوالي لهذا الغرض ليتولى ابن زياد المعروف بحقارته وظلمه، ليصل الموكب الحسيني وقد نصبت له الشراك، فقد وصل التخطيط الشيطاني بيزيد وعصابته أن يتم إبعاد القافلة عن الكوفة وقطع طريقها عن العودة للحجاز، وتصويرهم للرأي العام بأنهم عصبة مارقة خرجت على الحاكم وأرادت اغتصاب الحكم، وحتى تحكم حلقات المخطط تم احتجاز القافلة الشريفة في مكان بالصحراء حتى لا تصل أخبارهم للناس فيمكن الافتراء بحقهم، والتنكيل بهم بعيداً عن الأعين.. وبدأت مأساة أهل البيت، حيث ارتكب الجيش الباغي مع أهل البيت ما لا يمكن أن يرتكبه الشيطان نفسه، وقتل الشباب وتم التمثيل بسيد الشهداء الإمام الحسين ونفس الرأس الشريف الذي كان يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم تم قطعها والعبث بها، وقطعت رؤوس شباب أهل البيت وحملت على الرماح لتترك الأجساد على أرض تشهد بالظلم والعدوان وتخجل أن تحمل هذه الأجساد الطاهرة، ولا تعرف كيف تواريها في بطنها بعدما تركها أعوان إبليس.. هنا بدأ دور السيدة زينب، وكانت وقتها في الخامسة والخمسين من العمر، رغم ذلك فقد تصرفت بروح شابة ثائرة، لقد رأت بعينيها استشهاد كل شباب عائلتها، ولدها، شقيقها، أبناء عمومتها وأبناء أشقائها، لكنها أدركت أن القلوب الضعيفة لا مكان لها وسط الظلم، فتجرعت دموعها لتأخذ منها زادا يعينها على أيام لابد عصيبة، وبالفعل تم أخذ نساء أهل البيت سبايا في مشهد لا يليق حتى بالجواري،بنات الرسول الكريم صرن سبايا في أيد غاشمة ظالمة، وسيق الموكب بتعمد لإذلالهن، لكنها صمدت واستطاعت أن تصبح هي روح الثورة وجذوتها التي لا تنطفئ، فقد خطط يزيد لعرض موكب السبايا حتى يرعب أعداءه ويخيف هؤلاء النسوة، فاستطاعت السيدة زينب بزعامتها وقوة شخصيتها وعقلها الثاقب أن تدير المعركة معه لتجعله هو الخاسر، بثت روح الحمية في نفوس النساء، وصارت كلما تدخل بلدا تخطب في الناس حتى يعرف الجميع ماذا حدث بالضبط، وانقلب السحر على الساحر حيث صار الناس ضد ما حدث مع أهل البيت ، وبدلا من أن يصبح موكب السبايا هو الخائف المرتجف من حاكم جائر يحمل كل السلطة في يديه، صار الحاكم هو المرتجف من لسان هذه السيدة العظيمة وبيانها وعمق تأثير كلماتها في الناس...لم يرعبها سلطانه، لم تتوقف عند أحزانها، فهي سليلة بيت النبوة الشريف، ونفس الطريق الذي تسير فيه الآن سبية في موكب يعاني الجوع والعطش والمعاملة المزرية، هو نفس الطريق الذي سارت فيه في موكب جليل مع والدها عندما ذهب لتسلم ولاية المسلمين....نفس الطريق ذهبت فيه من قبل مع أخويها قمري بيت النبوة وهو نفس الطريق الذي تعود منه بلا أي منهما... لكنها أصرت أن تكون جهازا إعلاميا متكاملا للثورة، وأن تجاهد حتى تفضح ما حدث، فيجد يزيد نفسه مضطرا لإعادتها إلي المدينة حيث بدأ قومه يثورون عليه... لكنها في المدينة أيضا لم تهدأ بل واصلت الكفاح وفضح ممارسات يزيد وعصابته، مما اضطر الوالي أن يطلب منها اختيار بلد آخر تذهب إليه، لتخرج من بلدها ومسقط رأسها وتختار مصر، وهنا يستقبلها الوالي وكبار القوم والعلماء متهللين سعداء ببركتها التي ستحل على البلد ويعطيها الحاكم منزله ليصبح هو منزلها وهو مرقدها بعد ذلك.. ورغم وفاتها فهي مازالت، بيننا بجهادها وبالدروس التي لو تعلمناها ووعيناها جيدا سندرك أن الحق هو القوة وأن المبدأ هو النبراس والظالم هو الضعيف رغم قوته، ويظل صاحب الحق هو القوي ومهما وأرى جسده الثرى فهو باق بقاء المبادئ، وخالد إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها .

 

المصدر: مجلة حواء- ايمان حسن الحفناوي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,467,567

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز