عن التسول والمتسولين

كتب : محمد الحمامصي

تطورت أشكال وأحجام وأساليب وتعبيرات وأزياء التسول والمتسولين حيث لم تعد تلك التي كنا نعرفها ونتابعها في الشوارع والأماكن العامة ووسائل النقل العام وأمام الهيئات والوزارات والنوادي وهلم جرا في الزمن القريب، وكانت عبارة رجل أو امرأة مريضة أو تعاني من عجز في أجزاء في جسمها أو فقيرة تلبس ثيابا بالية ومهلهلة أو ممزقة وقذرة، لا تنتعل حذاء، تجلس في ركن بأحد الأماكن العامة أو تقف أو تتجول هناك وهناك تجر طفلا أو طلفين أو تحمل طفلة وتجر آخر، تنادي في العابرين بعفوية حاجة لله يا محسنين، حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيره، واتق الله لو بشق تمرة« »داووا مرضاكم بالصدقات أختكم محتاجة مساعدة«.

المتسول بعد التطور صار أنيقا، له فتوة الشباب ـ قد يكون وسيما أحيانا ـ لبقا يرتدي ثيابا متوسطة الحال، ينتعل حذاء أو شبشبا، صحته جيدة، يستخدم تعبيرات محفوظة جيدا وبعناية، في كثير من الأحيان لا ينادي بها ولكن يغنيها، وللأسف لم يتثن لي حفظ أي مما أسمع أو تسجله، ولكن يمكن الاستشهاد هنا ببعض نداءات المتسولات اللاتي غالبا ما يتمتعن بالنضارة والحيوية والخفة »زوجي مريض وأعول أربعة أطفال، أو زوجي يعاني من المرض اللعين ويرقد في المستشفى ويحتاج أن أنفق عليه وعلى أبنائي منه، أو أن ابنتي تعاني من فشل كلوي وتحتاج غسيل كلى مرتين في الأسبوع، أو »صاحب البيت سيطردني لأني لم أدفع الإيجار منذ شهور فأين أذهب بأولادي« وهكذا.

متسولو اليوم شباب وفتيات أو سيدات ورجال في أعمار صغيرة، لا يتمتعون بأي أمر من الأمور التي تثير الشفقة أو تدعو لمساعدتهم، يتنقلون في الأتوبيسات وبين عربات المترو وفي الشوارع بحيوية وخفة، ويرتدون ملابس لا غبار عليها، لا تبدو عليهم علامات الحاجة، كأنهم يتسولون لزيادة ما يملكون أو خوفا على نفاد ما يملكون.

ومن الأساليب الجديدة إطلاق الأطفال بعلب المناديل أو النعناع أو اللبان، وهم أطفال مدربون جيدا، ويتمتعون باليقظة والشدة والقدرة على الحسم والصرامة، على الرغم من أن أعمارهم لا تتجاوز العاشرة، ولكنهم يمرون مثلا داخل عربة المترو ويوزعون باكو النعناع على جانبي العربة، وفي حال رفضك تلقي الباكو«يظغر« لك الطفل بعينيه كأنه يصفعك على وجهك، ويعودون لتحصيل الثمن أو استرداد الباكو، لا يفوتهم أحد، وجاهزون للرد والتعامل بصرامة مع أي تهريج أو إهمال.

المتسولون »البهوات« قد يكونون ليسو غرباء عن الشارع، لكن التطور الذي لحقهم، هو أن الواحد منهم قد يكون يركب سيارة أحدث موديل، ويستوقفك بتهذب مبالغ فيه، ليقول لك إنه آسف إذ يضطرك للوقوف وآسف أيضا إذ يضطر أن يطلب منك أي مبلغ يكفي لشراء بعض البنزين للسيارة، لأنه للأسف خرج من بيته وقد نسى كافة حافظاته وهواتفه. وقد حدث في شهر رمضان وكنت عائدا في سيارة صديق من إفطار أقامته إحدى دور النشر بأحد فنادق مدينة نصر، أن استوقفتنا سيارة وإذا بسائقها وكان شابا وسيما بصحبته سيدة وطفل، وطلب 50 جنيها لأن ماله نفذ والسيارة تحتاج إلى بنزين كي يستطيع استكمال طريقه إلى منزله.

أما المشهد التالي فقد تمنيت أن أسجله في صورة فوتوغرافية أو فيديو، لكن القلق من رد فعل ركاب الأتوبيس المحيطين بي جعلني أتراجع، خاصة أن العنف أصبح مجانيا ولأتفه الأسباب، كان أتوبيس النقل العام قد تجاوز كوبري عباس ـ يربط منيل الروضة بالجيزة ـ واقترب من ميدان الجيزة، وكنت أتابع طابور البائعة الذين يحتلون الرصيف ويستحوذون على جزء كبير من الشارع بملاءات وطاولات وعربات وما يشبه الطاولات والعربات، بين هذا الطابور كان ملقى على ظهره يفترش ملاءة، يضع تحت رأسه صندوقا خشبيا صغيرا، وإحدى يديه مضمومة إلى صدره والأخرى ممدودة مفتوح الكف، ورجلاه، الصحيحة منهما مفرودة بشكل طبيعي والثانية مقطوعة حتى قرب نهاية الفخذ، ويستند ما بقي من الفخذ على حجر، ليتحقق التوازن بين القدم الصحيحة والأخرى المبتورة.

إطلالة الفخذ المبتور المستند على حجر داخل المشهد، بدلا من أن تثير شفقتي أثار دهشتي وفضولي، ففضلا عن أنني لم أر للمشهد نظيرا من قبل، فإنه جاء في سياق أكد لي أن »التسول« في مصر أصبحت نشاطا تجاريا، وفي ظل العشوائية التي تجتاح الشارع اكتسب مشروعية وجوده داخل حيز مكاني ثابتا ومتحركا مثله مثل طاولات وعربات بيع الأحذية والملابس والجوارب والأطعمة ولعب الأطفال والحلويات وهلم جرا.

تأملت الرجل الأربعيني العمر ووجه وتسريحة شعره وحرفية استلقائه على الملاءة واسناده لما تبقى من فخذه على حجر ليوازن بينه وبين فخذ رجله الصحيحة، وامتداد ذراعه وكفه المفتوحة، وملابسه القذرة والممزقة، ووجدت أن هذا هو خير مثال ينطق على ما آل إليه حالنا

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1271 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,813,196

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز