مهلا أيها القدر ما أمهل أيام الشقاء!
كتب- حمدى عماره
وما أهول البعاد على قلوب العاشقين!. انقضت السنون العجاب، ولم تكن عجاباً لجدب الأرض، أو لعزوف السماء عن الجود بالمطر.. فالأمطار تفيض بالخير، والعيش رخو، وأسباب النعيم تحوطه من كل حدب وصوب. ولكن كان القرار منلدنه.. عزم أن يجففها بإرادته.. أرأيت؟. جفاف بقرار!.. بيد أنه لم يكن مخموراً، ولا ملتاثاً بل كان عاقلاً ومتزناً بشهادة الآخرين.. لقد عزت عليه نفسه. فعف وترفع، ولم يسأل الناس إلحافاً.. وسرعان ما أخذ بالأسباب، وما لبث أن اتخذ الدرب العسير الذى لا يعرف سواه.
أطاحت به الأقدار آلاف الفراسخ.. لم يتبرم أو يستاء فكلها بلاد الله، ومن يدب على أرضها خلق الله. وحاش لله أن يكون فراراً، وإن كان فسمّة فرار إلى الله.. الغاية تبرر الوسيلة.. الغاية والوسيلة ساميتان رفيعتان.. وما أسمى وأرفع من جهاد وسعى فى سبل الحياة ودروبها، وفاء بالعهد وإثبات للوجود؟!.
من أجله وقفت وقفة الرجال، وردت ذوى الأيدى الملساء وعلية القوم وهو ابن الأجير!.. فهو الأثير دون سائر البشر.. وبدت كثائر، يأبى الرث القديم وتخلف المعايير، ويذود عن حق القرار وحرية الاختيار. ومن أجلها عاهد نفسه، واتخذ قرار الرحيل وإن شق عليه الفراق. صراعان انبثقا من مشكاة الهوى.. صراع مع خمود العقل. وصراع مع الحياة.
مضت الثلاثة. حول بعد حول.. يرزق من كده، وينفق من عرق جبينه.. لم يبخل على نفسه، وإن عاش كالزهاد، متقشفاً وعلى قدر الكفاف.. يأكل ليعيش، ثم ليقوى على العمل، ثم ليؤجر.. لم يستوحش الغربة واصطبر عليها، فعلى مدى هذه السنين، لم يزر بلده وإن هفت إليها نفسه، وتاقت إلى روحه وحب عمره، بل تواصلت به الأيام فى عمله.. ليوفر أيام الغربة وتكاليف السفر من ناحية، ويعلى دخله من ناحية أخرى.. قمع ألق الهوى فى نفسه، وظفر فى نهاية المطاف.. اجتاز المحنة وانتصر على البلاء.
وطفق يملأ بصره بثمار العرق وتعب السنين.. رضى نفساً، وارتاح بالاً، وغشيته نشوة. وعاد ينصت إلى شدو الطير، ويرنو إلى الأفق البهى.. طافت به نسمة رقيقة، إذ أطل محياها صفيا فى صفحته.. كعهده بها شامخة مترفعة.. تعلوها فرحة لم ير كمثلها.. والفرحة على قدر الكد والأسى.. لقد مرت عليه السنون وهو فى غمرة الكد والبذل،. واستغرقتها هى فى طحان بينما تكابد الانتظار. وما أثقـل رتابة الأيام وتلكؤها!.
ابتاع تذكرة السفر، ستقلع الطائرة صباح الغد.. انصرم من عمره ثلاث سنوات.. لم يتبق سوى بضع ساعات.. ستعدو، وتمضى سراعاً فسيؤنسه طيفها، ويتصفحان معاً كتاب الذكريات.. لقد أحبها حباً يفوق الوصف.. لم يقرأ عنه، فلم يطف بقريحة عبقرى ذى قلم، ولم يسمع به فى «حكاوى الناس».. فغرت الأفواه ذهولاً، وحار الأهل والأصحاب، فكيف لحسناء الزمان أن تضيع كنوز حسنها فى دهاليز العوز وغياهب الفقر؟!.. «ولكل فولة كيال» كما رددوا.. فمن هذا الغراب من خالبة الألبان، وفاتنة القوم والحى؟!.. كيف تراوده نفسه إلى التطلع إلى سيدته وسيدة أبيه وعائلته أجمعين؟!.. كانا هما فى واد آخر.. لم يطف ببالهما مثل هذا.. إنهما لم يتعاقدا على الحب أو يتعاهدا عليه.. بل داعب قلبيهما منذ كانا غضين صغيرين.. ونما فى أحضان الطبيعة بينما كانا يلهوان بين الخضرة ورذاذ المطر.. لكم تسابقا، ولكم افترشا الأرض وتحاكيا تحت القمر.. ما أعجبهما!.. لقد شهدهما الأهل وكل البشر.. كان على المرأى والمسمع.. لم يختلسا شيئاً، ولم يندسا فى الظلام، أو يتواريا بعيداً عن الأعين.. ونضر الحب وترعرع، وأثمر حواراً هائلاً، ومارداً جباراً يفرض سلطانه وسطوته، وكان على أهبة الاستعداد للنزال والصراع حتى الموت!. طأطأت الهامات، وخشعت الأبصار إزاء طغيان الحب، سلموا إليه القياد، ولا رجاء لديهم، إلا أن يلحق بالحب الأفول، ويمنى بخيبة الأمل!.
أبرق لها بالموعد.. أتاها رسول الغرام يزف البشرى.. رقص قلبها، ورفرف كطير فى قفص صدرها.. جرت هنا وهناك، واستقر بها المقام أمام مرآتها ورفيقتها، وكاتمة أسرارها، لعلها أرادت أن تقاسمها فرحتها.. لقد شاركتها الشجون والدموع طوال سنين الوحشة.. لا تدرى ماذا تريد أن تفعل أو ماذا تهمس للمرآة!.. ابتسمت.. ضحكت، ثم ضحكت.. كاد أن يقتلها الضحك.. توقفت خشية أن يسمعها عزول أو تصيبها عين حسود.. حلت جديلتيها، فانسدل الشعر الأسود على صدرها، وأحاط محياها.. وبدا قمراً يتألق فى ليلة ظلماء!.. بدت الصورة أكثر روعة حين رأت صورته.. خرجت منها تنهيدة تلتها أّنة!..
- «كاد يقتلنى الشوق لهفاً عليك.. وما بال عينى قرحت أجفانها الدموع؟!..
ساحة النقاش