فقراء العقل والوجدان

كتب محمد الحمامصى

الفقر ليس أن تكون فارغ اليدين والجيوب من المال، الفقر أن تكون فقير الروح، فقر العقل والوجدان، فقير الإبداع والابتكار، أن تكون بلا جمال أو حب أو رحمة أو سكينة، بلا معرفة ولا ثقافة ولا تاريخ ولا ذائقة جمالية، أو كما يقال أجهل من دابة.

الأول فقر مقدور عليه ويسهل علاج أسبابه، لكن الفقر الثاني فهو كارثة مأساوية يحتاج معجزة للسيطرة عليه والعمل على إزاحته، ويشكل خطرا على المجتمع.

هذا الفقر الثاني هو ما مني به بعض من أهل مصر الآن، ويجرها إلى الانهيار السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي، يخرج رئيس حزب من الأحزاب الممثلة لجماعات الإسلام السياسي، ليصف قتل الرئيس السادات والشخصيات العامة في الثمانينات بالعمليات الفدائية، ويدعو رئيس حزب آخر إلى مواجهة الجيش المصري في حال نزوله للشارع، ويدعو آخر لشرعنة المليشيات لتحل محل الشرطة وتحفظ الأمن فيما يشبه تسليم القط مفتاح الكرار، ليتحول الإرهاب قانونا.

فقر لا يملك إلا غوغائية الإدعاء والكذب وقلب الحقائق وتزييف الأباطيل، فقر لا يخجل من فقره بل يصر عليه دافعا البلاد والعباد للهاوية، هاوية الرجعية والظلام والتخلف، فهل يتصور أحد في القرن الحادي والعشرين وفي ظل التقنيات التكنولوجية التي تجتاح العالم، أن يخرج أحدهم ليقول أن السيدة والدته كانت تقيس نسبة السكر لوالده بتذوق بوله، يقول ذلك أمام مشاهديه الذين يعظهم ويفتيهم في أمور دينهم. ثم حين تعلق فتاة على قوله يرد بسفالة لا نظير لها أن بوله بعائلة وأسرة هذه الفتاة وأنه يساوى مليون دولار، وكل ذلك على شاشة التليفزيون!!.

وهل يتصور أحد أن يقبل وزير أو مسئول مجرد أن يعرض عليه أحدهم ـ مجرد عرض ـ تأجير الآثار المصرية، لقد ظن الناس أن الأمر من باب الشائعات أو السخرية، ولكن المسئول يقر بصحة ذلك ويكشف عن المستندات بعض فضح الإعلام للأمر، في كارثة تكشف إلى أي مدى وصل بنا فقر الوعي بمصر التاريخ والحضارة.

يرفض مجمع البحوث الإسلامية والأزهر مشروع الصكوك مرة واثنتين، حفاظا على مقدرات وممتلكات مصر والمصريين، ويصر المسئولون، دون أن يفكروا بخطورة ما هم مقدمون عليه أو يفكروا بالنتائج التي يمكن أن تترتب على تأجير الأجانب أو حتى المصريين لمرافق وبنى الأمة تاريخية أو حديثة، دون أن يساءلوا لماذا رفض المصريون الخصخصة؟ وكيف كانت نتائجها مدمرة على الاقتصاد المصري؟.

فقر المعرفة، فقر للإبداع والابتكار، فقر في الإدارة، وعلى الرغم من أن آثار هذا الفقر تملأ البلاد والعباد غضبا ونقمة وفزعا واكتئابا وحزنا، وتجتاح شوارع المدن والقرى عنفا، لكن الحماقة وهي أردأ من الفقر، أعيت من يداويها، لقد اجتمع الفقر والحماقة فصرنا ما نحن عليه الآن مهددين في حاضرنا ومستقبلنا، في أقواتنا وأرزاقنا وأخلاقنا وسلوكنا.

لقد عشت من عمري 22 عاما في صعيد مصر و26 عاما في القاهرة، لم أر من قبل مثل ما يجري من ترد أخلاقي وسلوكي، بعد أن أصبح القدوة يمتلئ فقرا، والواعظ يمتلئ جهلا، والداعية يمتلئ شرا، وصار النموذج في الاحتذاء غبيا وكاذبا ومزيفا وملفقا.

أقول لأحد الشيوخ في حوار جانبي بأحد المساجد: لقد تنقلت من مسجد لمسجد هربا من الخطب السياسية التي تفتي بالتكفير والعنف والسباب، فيرد ردا فظا حقيرا بعد كده ابقى روح كنيسة، يرد هذا الرد لمجرد الاعتراض على خلط الدين بالسياسة، واتخاذ الدين مطية لتنفيذ أجندة سياسية، وأن هذا لا يعنيني أنا القادم للصلاة بالمسجد، ما يعنيني هو أمر ديني وسماع الطيب من القول.

أحيانا يتمنى المرء أن يهرب، لكن إلى أين؟ والعالم قرية صغيرة لا يخفى فيها قول أو فعل، ومن ثم لا جدوى من الهروب فسوف تطاردنا لعنات هذا الفقر وتخبطاته أينما ذهبنا.

ليت فقهاء وأتباع السلطة والسلطان يرحمونا ويدركون أن فقرهم المعرفي والفكري بأمور دينهم وتاريخ وحضارة وطنهم وإدارة حاضرهم وتطلعات المستقبل، نكبة على الوطن، وأن عليهم أن يصمتوا أو يرحلوا رحمة بالبلاد والعباد.

وأخيرا ندعو الله ونتوسل إليه عز وجل أن يرحم مصر وشعبها وأن يرد كيد الخبثاء من شياطين الأنس وأهل الظلمة والظلام في نحورهم  

المصدر: مجلة حواء- محمد الحمامصى

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,016,957

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز