حقا كل حريق يبدأ من مستصغر الشرر، فعندما انطلقت الفضائيات بقوة فى تسعينيات القرن الماضى فزارت نفوسنا أمارات البهجة.. أخيرا ستجرى مياه التغيير فى قنوات الشكل العام للشاشة ولن نظل وحدنا فى غرفة مظلمة مع مذيعة أو مذيع متجهم الوجه يلقى علينا الأخبار والبيانات وكأنه يخبرنا بوفاة عزيز و لن نظل بالساعات مع الوجوه ذات الابتسامة المرسومة والحركة الدقيقة والأناقة الضيقة التى تخنقنا قبل أن تخنقهم.
ظننا أننا لن نتلقى الفرمانات بأن نظل أماكننا لأننا سنتجول بالكاميرا مع هند أبو السعود أو مع فريال صالح فى اخترنا لك، رحم الله الاثنتين، لكن نحن الجيل المراهق فى هذا الحين كنا نرتجف من الأصوات الحادة ونلتزم أماكننا وهذه كانت العادات التى تشكل عليها القوام التليفزيونى لا خروج عن النص ولا الهيئة العامة ولا الابتسامة المرسومة.
كنا نريد أن نتحرر ونرى قوالب غير مصبوبة، ولأننا عطشى لشاشة بلا قيود متحررة منطلقه لا تلزمنا بأصحاب الياقات المرفوعة ولا الابتسامات الجافة التى هى من أهم بنود الظهور، طرنا جماعات وفرادى إلى الفضائيات نتنسم رحيق حرية ناس حقيقين يتحركون ويبتسمون من القلب وبرامج حية وأفلام نادرة وأشخاص لا يلزمون مقاعدهم بل يتحركون وينفعلون ويمرحون ويضحكون، خرجنا إلى (سهراية) صفاء أبو السعود تقدم لضيوفها الشاى والكيك، وكأننا وهم ضيوفها برقى شديد، وقلم رصاص حمدى قنديل الذى كان فى هذه الآونة رجل الساعة التنويرية حين كان يلقى أمامنا بمشاكلنا ويبرزها لنا ويحاول بلا كرافت أن يناقشها معنا، وإلى نور الشريف متألقا على إحدى الفضائيات ببرنامج سينمائى رائع، وضع من خلاله الكثير من النقاط على حروف سينمائية كانت فارغة بالنسبة لكثيرين، وأيضا هالة سرحان فى برامجها الأولى على الفضائيات قدمت قضايا هامة وناقشت مواضيع كان من المستحيل نقاشها على الشاشة قبل أن تبتعد كل هذا الابتعاد عن القضايا، واختارت الشوهات التى تتراقص فيها وتغنى مع ضيوفها.
شوهات أم تشوهات
ومع بداية الألفية الجديدة خرج المارد من القمقم، نحن كنا نريد شكلاً متحرراً للشاشة لكن ليس إلى هذه الدرجة، ليس إلى هذا المستوى من التشوه التليفزيونى فقد تحرروا من كل شىء حتى الآداب العامة، وأصبحت الشاشات الفضائية مملوكة لمن يملك الأموال، لمن يستطيع أن يشترى إشارة بث، لم تعد هناك ضوابط تليفزيونية طالما حق البث دفع وانحرف الحال التليفزيونى الفضائى بشكل مرعب، خاصة بعد ثورة يناير 2011 بثت القنوات التى لها اتجاه دينى، وحملت برامج كانت هى بذاتها ما نطلق عليه بالعربى الدارج -الردح- كل انطلق يصفى الحسابات ولم يقتصر الأمر على القنوات الدينية بل القنوات العادية التى هى مجموعة قنوات مثلا أطلق عليها شبكة كذا، خصصت البرامج للمناقشات الساخنة حول الأحداث الجارية فى هذا الحين، بل بأم عينى رأيت ضيفا تابعا للجماعة المحظورة يخلع نعاله ويضعها على مائدة الحوار أمام المذيع الفضائى مهددا الضيف الليبرالى بها وكنا فى حالة ذهول ما بعده ذهول، وفى حلقة قدمتها هالة سرحان على فضائية فى هذا الحين ثار الإخوانى على الفنان التشكيلى صلاح عنانى وأطلق عليه وابلا من السباب ما سمعناه قط على شاشة، وتبارى الفضائيون فى اختلاق هذه المشاحنات الساخنة جدا بين ضيوفهم لتسخن الحلقة على حد زعمهم.
ورأينا الملتحين أصحاب العفاف المزيف يجلسون أمام المذيعات ذوات الشعر الأصفر وهم ينظرون للسقف وثارت إحداهن مرة فى وجه أحدهم بغيض للغاية تسأله لماذا أتيت وأنت لا تريد أن تنظر لى؟ لقد كانت فترة صعبة، فعلا مازالت آثارها باقية واشترى أيضا إشارات البث من كان أو بمعنى أصح من كانت تحلم فقط بالمرور أمام شاشة.. راقصة دوما تثير حولها الجدل والدهشة لإصرارها على ما تفعل، ضاربة عرض الحائط بكل شىء، وآخرون استثمروا أموالهم فى قنوات للرقص الشرقى فقط، وأخرى للضحك فقط، واستفحل مؤخرا مستصغر الشرر حتى أصبح مستكبر الشرر.
وألقوا بالآداب التليفزيونية فى الأدراج العتيقة، فلم يعد لها لزوم، فعلا بعد أن أصبح الكل يفعل كل ما يعن له على الشاشة دون أن يستحي وكما يقولون إذا لم تستح أفعل ما شئت، بعد أن أصبحت مهنة المعد التليفزيونى من المهن المندثرة ويوضع كأسم على الشاشة فقط كذر رماد فى العيون، لكن مقدم البرنامج يفعل ما يشاء، يصفى حسابه مع من رفضه يوما فى كتيبته الإعلامية من قبل أو مع من أخل باتفاق مادى وأعطاه يوما أقل أو تعارضت معه المصالح فكان لابد من التخارج بالحسنى لكن المذيع لم ينسها.. بل منذ أيام كانت تصفية حساب شهيرة بين أسماء بارزة تسللت منها روائح الفضائح التى كانت محبوسة فى الصندوق الأسود.
مذيع على ما تفرج
وأصبح تقديم البرامج مهنة أى من يريد الظهور طالما يحمل له صاحب القناة إعزازا خاصا، وانتقلوا من الكنبة الذين كانوا يجلسون عليها يتابعون البرامج ليجلسوا بها أمام الشاشات يخاطبون الناس بلا أدنى دراية بهذه المهمة التى كانت تحتاج عاما على الأقل من التدريب القوى، ليخرج المذيع على الناس ويخاطبهم كما قالت يوما الإعلامية الراحلة همت مصطفى لا هم يأتون أساتذة جامعات و مهندسين و دكاترة أو حتى طباخين ويقدمون البرامج دون أن تطرف لهم عين.
ولا أعرف من أين أتوا بهذه الجراءة! فحتى لو كان صاحب القناة الوالد شخصيا ألا يرتاب هو فى قدراته، ألا يخشى مواجهة الكاميرا دون سابق تدريب؟ فأنا أقبل بلا أى ضرر أو ضرار أن تقدم برامج فضائية صحفى أو يعدها ففى النهاية هو إعلام سواء مرئى أو مقروء، يعنى لم يذهب بعيدا فهو فى حقل حرفته، ولو أن هناك من لا يصلح فعلا وعنده عدم قبول و لغة لا صلة لها باللغة العربية، وصوت منفر لكن أقبل فهو على الأقل سيكون ملما بما يقوله، قد يكتبه بشكل أفضل لكن حين يقوله يكون على علم بمحاوره، لكن الآخرين قولوا لى أنتم ماذا يفعلون فى القنوات الفضائيه؟ خاصة نجوم التمثيل الذين لا يهابون طبعا مواجهة كاميرا، لكن تقديم البرامج شىء مختلف تماما، انتبه إليه نور الشريف وانتبهت إليه يسرا حين قدمت برنامجها من سنوات (بالعربى) وأشرف عبد الباقى لكن لم ينتبه أحمد آدم مثلا الذى تصور أنه على خشبة مسرح أو مها أحمد التى خيل إليها أن الضحك والتهريج السمج سيرفعها لسابع سما، أعود وأقول إن ما كنا نريده حرية تليفزيونية مسئولة نشعر باحترام ونحن نشاهد لا نشعر أننا طرف ثالث فى خناقة، وكأن أحدهما يشهدنا أن هذا الرجل كذا وكذا، أو نشعر كأننا شعب مغلوب على أمره يعطونه أى شىء فيرض، يأتون لنا من كل صوب ومهنة فى البرامج ونحن لا ننطق.
لا لابد أن يحترموا عقولنا فنحن المصريين قد نصبر سنيناً لكن حين نقول لا ستكون فاصلة.. فانتبهوا يا أهل الفضائيات وأعيدوا لنا آدابها .
المصدر: منال عثمان
نشرت فى 7 سبتمبر 2014
بواسطة hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
23,156,788
الصور المختارة
رئيس مجلس الإدارة:
عمر أحمد سامى
رئيسة التحرير:
سمر الدسوقي
الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز
ساحة النقاش