بدأت أيام القاهرة للمونودراما برئاسة الدكتور أسامة رؤوف, ويترأس لجنة التحكيم المؤلف المسرحى المبدع الأستاذ الدكتور سامح مهران، وضمن اليوم الأول عرض عمل بعنوان "أنا كارمن" والذى عدت بعده إلى منزلي مبتهجة وسعيدة ويغمرنى الانتشاء لما فيه من مسببات عديدة لهذه الحالة المعنوية, أولها أن مبدعة هذا العمل مصرية أصيلة صميمة، ملامحها المصرية كانت تفوح تلقائية وتعبيرية، لم تعتمد على المساحيق الملونة لاجتذاب الجمهور أو العرى والابتذال وإنما إعمال العقل والتفكير، فالعرض يحتوى على أفكار عدة ناقشتها بسلاسة مطلقة وأداء مبهج ومبهر، ورغم أنه عرض مونودراما أى يعتمد على الممثل الأوحد على خشبة المسرح، والذى ربما لا يميل له الكثيرون وبالأخص فى مجتمعاتنا العربية إلا أن هذه الفنانة صاحبة الطاقة التمثيلية الجبارة التى تفجرت فى كل لحظة من أوقات الزمن أثناء تأدية دورها على المسرح، فلم يبلغ الجمهور حالة من السأم أو الملل الذى قد يتسلل إليه أثناء المشاهدة أو المتابعة نتيجة وجود الممثل الفرد طيلة العرض، وإنما الإيقاع السريع الذى احتوته أنا كارمن، وقدرة البطلة على الانتقال من حالة لأخرى بمنتهى السهولة والاسترسال، والموضوعات المختلفة التى تناقشها بحرفية وتقنية عالية سواء من خلال الكتابة المسرحية أو الأداء الراقى المعبر بدءاً من مواجهة العنف ضد المرأة بأشكاله المختلفة فى العمل ونتيجة ظروف الحياة لعاملة نظافة، للتحرش الجنسى، لفكرة توثيق المسرح المصرى وعودته لأى مرحلة زمنية وقوتها وإيمانها أنها ابنة عازفة الهارب التى تنتمى للحضارة الفرعونية مصدر العلوم والفنون للبشرية منذ سبعة آلاف عام، وتأكيدها أن المسرح يقدم فكرا وثقافة فتشعر أنك أمام عاشقة للمسرح أب الفنون، وتنتقل بنا للقضية الفلسطينية التى تسللت إليها دون أن تدرى ليتحول مسار النص من العامية إلى الفصحى بطلاقة ودون الإخلال بالنص محكم البناء، ودون أن يسترعى انتباهك أنك أمام أزمة عربية نعانى منها منذ أكثر من سبعين عاماً مضت، لكنها تناقش القضية الأزلية بموضوعية المثقف المستنير, والباحث الأكاديمى الواعى، والفيلسوف صاحب الرؤية العميقة إنها الفنانة المبدعة سما إبراهيم, والتى فى اعتقادى يجب إعادة اكتشافها مرة أخرى واستغلال طاقتها التمثيلية والأدائية للانطلاق بالمسرح إلى الأمام بإمكاناتها التى أفرزها العرض ما بين التمثيل والعزف والغناء والرقص.
فكانت عازفة للجيتار فى أحد المشاهد، وكانت مغنية بأداء أوبرالى على موسيقى جورج بيزيه الشهيرة لأوبرا كارمن والتى وظفتها كمخرجة لخدمة الفكرة والسيطرة عليها لنتذكر أننا أمام كارمن، فرغم تعدد القضايا كما أشرنا إلا أن جميعها تنبثق تحت مظلة الفكرة الرئيسة للعمل، أما الأداء الراقص فكان داخل السياق الدرامى لخدمة العرض دون ابتذال أو خلاعة وهو ما يجعلك كمتلقى تعيش الأحداث بحالة وجدانية تفاعلية, وما أدهشنى فى قدرة هذه المبدعة هو قدرتها على الانتقال من حالة نفسية لأخرى بسرعة وبنفس مستوى الأداء، الأمر الثانى قدرتها على الأداء الكوميدى بتلقائية، وسرعة بديهتها على تعليقات قد تصل لأذنيها من خلال الجمهور فتعقب بدهاء شديد، ومقدرتها الكامنة على استقطاب ثقافات مختلفة لموضوعات مهمة بأسلوب بسيط، وكذلك الشرائح العمرية التى تابعت العرض بداية من سن الشباب حتى أصحاب الخبرات والمعارف فكان رد الفعل محفزاً إيجابياً, وسعدت بتعليقات عدد من المحيطين بى لهذه المبدعة الرائعة وتشبيهها بالراحلة العظيمة سناء جميل، وهو ما يشير إلى أن مصر ولادة بطاقاتها المتجددة دائماً ولكن إحقاقاً للحق أننا أمام فنانة من طراز فريد لأنها ليست ممثلة فحسب وإنما هى مؤلفة ومخرجة بجانب أدوارها العديدة التى أفصحت عن حالة إبداعية متكاملة وليس مجرد عرض مسرحى.
سما إبراهيم تابعناها فى دور أم جابر بمسلسل طايع بعبقريتها التى أتمنى أن يشاهدها الجميع ليس فقط على الشاشة الفضية وإنما بطاقات تتفجر على المسرح، مسرحنا بخير طالما هناك مبدعون بقيمة سما إبراهيم.
وأخيراً أختم باستعادة طاقة الورد إلى زوجها الذى يدعمها ويساندها والذى قدم لها باقة ورد ممزوجة بمشاعر إنسانية نبيلة, فوراء كل عظيم امرأة, ووراء كل امرأة عظيمة زوج أعظم مساند وداعم لقدراتها وعطائها.. فتحية لهذا الزوج من قلب حواء.
ساحة النقاش