فى عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمى ، زاد تقصير النيل عن منسوبه الكافى ، وقصت مساحة الأرض الزراعية، حتى شعر أهل مصر أن أيام النعمة والهناء التى كانت البلاد تنعم فيها بالهدوء والخير قد ولت، وجاءت أيام قحط وخوف وفزع ، لم تعرف مصر مثيلا لها من قبل.
ومع تقصير النيل بهذا الشكل الملحوظ، وزيادة الضرائب والمكوس لتعويض ضعف الموارد، اضطربت أحوال الدولة، وعجزت عن حفظ الأمن، بعد استقرار طويل كانت مياه النيل فيه تجرى وترتفع وتفيض على الوادى .
وباضطراب أحوال الدولة انطفأت القناديل التى تبدد الظلام الدامس فى الليالى الطويلة، وأغلقت الأسواق قبل أن تغيب الشمس ، وهجر النواتية مراكبهم الشراعية التى ساخت فى قاع النيل. كما هجر الفلاحون أراضيهم الزراعية، وحل محلهم الجنود الذين حرثوا الأرض بسنابك الخيل ودروع الفرسان .
ومع ذلك ظلت الغربان تنعق فى الأرض والسماء، والخيل تحمحم وهى تبحث تحت أقدامها عما تقتات به . ولم يعد أحد يؤذن من فوق المنابر ، أو يأمن على نفسه من الاختطاف .
وتلاشت الابتهالات فى الفضاء الملبد بالغيوم .
انحطت الأخلاق رغم الأدعية والأوراد التى كانت تسمع فى كل مكان، مختلطة بالأسى والأنين . وسقطت المروءة فى التعامل بين الناس، وشاعت النميمة مع تقارب القلوب فى الشدة. خولف الشرع علناً، وحل محله الشحان فى كل التعاملات ، تحول جمر المباخر إلى رماد ، وانعدم الدخان الذى كانت حلقاته تتصاعد مع الغرز والأقباء المنخفضة فى الأزقة والدروب الضيقة والزوايا . وانتشر الحسد والفسوق بما تبقى فى النفوس من رمق الحياة . وانتفت كل معرفة بعد غلق الكتاتيب . واتسع نطاق البدع والضلالات .
وتضاعف سعر السلع فى الأسواق إلى حد بيع ما يساوى درهماً بعشرة دراهم أو أكثر .
ولأنه لم يكن من الممكن تجاوز المحنة من الداخل ، على كثرة العرائض التى كتبت هنا وهناك ، وجهت الرسائل إلى الخلفاء فى المشرق والمغرب ، لكى ينقذوا مصر من المجاعة التى تنزل بها، والبوار الذى يتهددها ..
واستنجد الخليفة المستنصر بمملكة الروم . أرسل قاضيه عبدالله القضاعى لكى يتفاوض بالنيابة عنه ، ويستورد كل ما يستطيع استيراده من القمح .
غير أن جميع المحاولات باءت بالفشل . عاد القضاعى بخفى حنين ، بعد أن شاهد بنفسه ارتفاع الأسعار بدرجة فاحشة، نتيجة قلة المعروض من البضائع والسلع ، والتجاء التجار إلى تهريب ما يملكون ، أو إلى تخزينه مع الصوامع، طمعاً فى مكاسب أكبر .
ولم يسلم من هذه الشدة غير قصر المستنصر بالله ، وقصور الأمراء وحواشيهم الذين كانوا يجدون فى البداية ما يحتاجون إليه من القمح والخضر واللحوم ، ثم أصابهم ما أصاب العامة، بعد أن استنفدوا مافى خزائنهم مقابل أرغفة قليلة من الخبز تقيم أودهم .
وزاد الأمر سوءا انتشار الأمراض والأوبئة التى قضت على ثلث سكان مصر ، دفن معظمهم بلا طقوس وبلا أكفان.
أما الذين بقوا أحياء فكانوا يأكلون أوراق اللفت وعروق الفول ، والميتة من الكلاب والقطط ، ومنهم من أكل لحوم البشر حين كان الجوع يعتصر أحشاءهم .
استمرت الأوضاع على هذا السوء سنوات ، بدت فيها عاصمة الدنيا ومدنها مقفزة، تتجول فيها الأشباح، لايصدق من يراها أن هذه الخرائب هى أم الدنيا التى كانت عامرة بالحياة .
وفى وسط هذا السكون المطبق، الذى غلبت فيه طبيعة الإنسان ، ثارت سيدة من أرباب البيوتات الثرية ، عندما اضطرت إلى بيع الثمين الذى يقدر بألف دينار مقابل حفنة من الدقيق ، وضعتها فى قصعة من الفخار المحروق ، ومضت عائدة إلى بيتها لخبزها فى الفرن .
وأثناء سيرها اعترضتها هبة من الناس ، نهبت ما تحمله فى القصعة، وولت الإدبار. ودون تفكير اتجهت السيدة على الفور ، وهى فى قمة غضبها ، إلى قصر الخليفة، ووقفت على مقربة منه، فوق هضبة عالية، رافعة القصعة الفارغة بين يديها ، وأخذت تصرخ بصوت حيانى، مبهورة الأنفاس ، والدموع تتساقط من عينيها لا يكاد يراها أحد فى غبش الغروب .
- يا أهل القاهرة .
- ادعوا لمولانا المستنصر،
- الذى أسعد الناس بأيامه،
- حتى اشتريت ما أخذ من هذه القصعة
- بألف دينار .
ولأول مرة لم يضع الصراخ أدراج الرياح ، سمعته نساء القصر كلمة كلمة ، وتناقلته بالهمس والجهر .
وكادت الشمس فى اليوم التالى تشرق ، ويطلع الصباح ، حتى ظهرت قبضة الحكم على المتلاعبين بالأقوات . واحدا واحدا . ووزع الفقراء على قصور الأمراء والأغنياء لسد جوعهم.
وتحت تهديد الخليفة بقطع رقاب التجار إن لم يظهر المخزون ، ويعرض فى الأسواق بالأسعار المعتلة والكيل الصحيح ، اضطر التجار إلى إخراج غلالهم المخبأة .
وكانت القبضة المحكمة للخلافة قد اقتادت بعض التجار رهينة إن لم يتوقف الاستغلال، حتى لا يعاد النذير ، وتصدر المراسم واالخواتيم .
وفجأة لاحت فى الأفق لأهل الساحل الشمالى أعداد كبيرة من السفن المحملة بالغلال ، قادمة من الأندلس ، قدر عددها بالعشرات ، واستغرق تفريغها على الشواطىء ثلاثة أيام، لم يتوقف فيها نقل ما تحمله السفن لحظة واحد .
وقابل أهل مصر هذه الإغاثة بإغاثة مماثلة للأندلسيين ، فملأوا السفن بالأسلحة والذخيرة التى كانت الأندلس فى حاجة إليها للدفاع عن وجودها ، حاجة المصريين لهذه الغلال، لتأمين وجودهم فى الحياة.
ساحة النقاش