كان لقاؤنا الماضى فى جامعه أسيوط.. و الصورة هناك تبدو محكومة بالتقاليد و الرواسب الاجتماعية.. نفس التقاليد التى تسيطر على أفكار الناس هناك،و تكبل كل من يدخل المدينة حتى ولو كان قد مارس الاخلاتط،و عاش فى جو بعيد عن الافكار العتيقة و التقاليد البالية.
و برزت فى ذهنى صورة لقاء جديد فى جامعة الاسكندرية و ربما كان الدافع الى ذلك ماسمعته من معيدات فى جامعة أسيوط تلقين دراستهن الجامعية فى الاسكندرية. و تحدثن عن الاختلاط هناك.و القيود فى أسيوط.
و كان الجواب عن السؤال يقتضى رحلة الى هناك.. رحلة هدفها المقارنة بين صورتين لا قف على مدى التناقض بين هذين المجتمعين.
و قد اتضح لى الفرق منذ أول وهلة ما لم أكد التقى بأفواج الطالبات و الطلبة حتى رأيتهم يمارسون الاختلاط بلا قيود ولا حواجز ولا عقد. المناقشات تدور فى حرية. النظرة فيها روح الزمالة المتبادلة. الاحاديث فيها صفاء الصداقة القائمة على أساس من الاحترام المتبادل. باختصار، رأيت و اجتماعيا صحيا تماما.
الطالبات فى البدروم
كان هذا انطباعى الاول و كان هذا سببا فى نظرة مشرفة أحسـست من خلالها بالفارق بين المجتمعين.و لكن هذه النظرة ضاعت بين معالم الدهشة و أنا أرى مجموعة من طالبات كلية الاداب مجتمعات فى مكان ضيق عبارة عن بدروم يدخله بصيص من النور.
فى هذا المكان الغريب جلست الطالبات فى دردشة حول زجاجات المرطبات.و يقوم على خدمتهن ساع خاص و عندما كان الحديث يدور بينى و بينهن، اقترب زميلى المصور ليسجل بعض اللقطات. و هنا اعترض الساعى قائلا:
-لا ممنوع دول حريم!
و مع هذا التعليق.. انطلقت الضحكات الرقيقة من أفواه الطالبات،و كنت أتوقع أن تنتهز الطالبات الفرصة،و يتحدثن عن القيود التى تفرض عليهن البقاء فى هذا المكان.و لكن اتضح لى أنهن أخترن هذا المكان بمحض اختيارهن. فضلن الجلوس فيه و عم أن بوفيه الجامعة – و هو مقام على أحدث طراز – يقع فى الناحية المقابلة تماما.و السبب أن الطالبات اكتشفن أن كثيرا من الجالسين فى بوفيه الجامعة ليسوا من الطلبة و انما هم فئة الموظفين تعودت أن تتخذ منه (وسيلة) للتعارف مع الطالبات.و كانت هذه المقاطعة.و الرضاء بالجلوس فى البدروم!
و من رأى الطالبات أن السبب فى ذلك هو عدم وجود رقابة على الباب الخارجى.و بذلك أصبح فى أمكان أى شخص أن يدخل و يخرج وقتما يشاء،و دون أن يكون طالبا فى الجامعة أو حتى منتسبا لها.
و قالت أحدى الطالبات: هذا هو السبب فى مقاطعتنا للبوفيه. أننا قطعا لا نهرب من زملائنا ولا نخشى ممارسة الاختلاط،و لكننا نتفادى الشائعات التى تصدر عن أشخاص ابعد ما يكونون عن الجامعة.
و الطلبة من راى الطالبات فى هذا الموقف، قال لى أحد الطلبة أننى أرى للزميلات كل الحق فى هذا التصرف. فأن البوفيه فى بعض الكليات أشبه ما يكون بالمقهى فى أى مكان. و أنا شخصيا لا أحترم أى طالة تقبل الجلوس فى البوفيه و هى تعلم علم اليقين أن غالبية الموجودين ليسو من الطلبة.
و كان الحديث يدور بينى و بين الطالبات،و فى غمرة الحماسة و لمناقشة، أستأذنت أحدى الطالبات فى الانصراف لانها مرتبطة بموعد مباراة كرة السلة.و هى رئيسة الفريق فى كليتها.
و خرجت الطالبة لاعرف قصتها من افواه زميلاتها.. قصة الفتاة الريفية التى تعيش فى مجتمع متحضر، فتنطلق و تندمج و تتخلص من الرواسب البالية.
و لكن البداية لم تكن كذلك، فعندما التحقت هذه الطالبة بالجامعة كانت متزمتة تماما، للدرجة أنها كونت فريقا من الطالبات الريفيات، مهمته عرقلة السبيل أمام أى طالبة تحاول أن تمارس نشاطا محتلطا.و كانت الشائعات هى السلاح الاول فى الهجوم على الاخريات!
و لم تقابل الطالبات هذا الموقف بالعداء. حاولن أن يفهمن هذه الطالبة و زميلاتها أن تقاليد المدينة تختلف عن تقاليد القرية.و أن الفتاة يمكن أن تنطلق و تمارس حياة طبيعية و سوية،و أن تجبر الاخرين على احترام حقها و حرمتها و لكنها كانت تصم أذنيها عن هذه الاحاديث،و تصر على موقفها.
و تغير الموقف بعد عامين.. غيرته التجربة العملية التى رأتها ممثلة فى الزميلات المختلطات. انهن يمارسن الحياة الطبيعية التى يجب أن تمارسها كل فتاة عرفت نور العلم و الثقافة و المدنية.و كان أن بدأت هى الاخرى تمارس الاختلاط، بعد أن تبينت لها فيه جوانب أخرى كثيرة مضيئة. هكذا تحدثت الى الطلبة.و عاونتهم فى المحاضرات.و أسهمت فى أكثر من مشروع طلابى و أشتركت فى المسابقات الرياضية..و تخلت عن زعامة فريق الريفيات لتصبح رئيسة لاتحاد الطلبة فى كليتها و (كابتن) فريق السلة.
موقف الريفية من الاختلاط
و هذه التجربة تقدم لنا صورة معكوسة تماما لصورة الطالبة فى جامعة أسيوط. فهناك التقاليد تكبل كل فتاة سواء كانت تؤمن باختلاط أو لا تؤمن به، أما فى مجتمع الاسكندرية، تجد الفتاة المتزمتة فرصة للانطلاق و التعبير عن ذاتها كاملة.
و ليس هذا مجرد أستنتاج، فقد سألت الطالبات عن موقف الفتاة الريفية من مجتمع الاختلاط بصورة عامة.و جاءتنى اجابات كثيرة كلها تدور حول معنى واحد مشترك. أن الفتاة التى تأتى من الريف تكون متزمتة جدا،و بخاصة فى العام الاول، ثم لا تلبث الاغلبية أن تدرك المعانى العميقة للحياة الجديدة، فتحاول أن تندمج و أن ترتقى بأفكارها و مظهرها و ذةقها.و هناك قلة قليلة تخشى هذه الحياة..و تصر على أن تقف حيث هى، و بكل ما تحمل من تقاليد.
و يعلق الطالب (أحمد فؤاد) على موقف هذه الفئة، فيقول: اننى لا أعتبر أن مثل هه الطالبة قد دخلت الجامعة. ففى رأيى أن الجامعة ليست مكانا لتلقى العلوم وحدها،و أنما هى أيضا ميدان تجارب و حقل ثقافة اجتماعية و أدبية. أن الاختلاط يعلم الانسان كيف يمارس الحياة ممارسة فعلية و كاملة. و الثقافة لا تأتى الا عن طريق المعرفة و المناقشة و التعرف الى وجهات النظر المختلفة.
و الطالبات يؤكدن هذه الحقيقة و تضيف أحدى الطالبات قائلة: أن الطالبة التى لا تختلط لا يمكنها أن تمارس حياة عملية ناجحة.و تكون النتيجة دائما أن تصطدم مع الاخرين،و تتعرض لهزات الفشل.
الحياة مسئولية
و كذلك عرفت أن هناك عددا من الطالبات يسهمن فى نفقات البيت بعد أن تلقن تدريبا على التفصيل و الحباكة فى مركز تدريب الجامعة. و أستطعن أن يشغلن أوقات فراغهن فى تفصيل بعض الملابس للزميلات و للمحلات التجارية أحيانا.
و هذه أيضا صورة جديدة تدل على وعى و ايجابية.و أيمان من هذه الفتاة بأن دورها لا يقف عند حدود نفسها،و أنما يتجاوزه الى نطاق الاسرة.
و هذا الوعى و تلك الايجابية و ذلك الايمان.. كل ذلك ينعكس أيضا على مظهر الطالبات. أن الملابس فيها ذوق و أناقة و بساطة و بعد عن التطرف. ليست هناك طالبة ترتدى جونلة ضيقة أو بفتحة جانبية،و ليست هناك رموش صناعية أو (باروكات).
و فرق كبير بين هذا المظهر و بين مظهر بعض الطالبات فى الجامعة القاهرة، حيث كانت المناظر المشوهة سببا فى حملة للمطالبة بتوحيد الزى للحد من هذه الظاهرة.
و الحقيقة أن المثقفات الاجتماعية يقسن خلف هذا المظهر الرائع. أن المثقفة تبذل جهودا دائمة من أجل تعريف الطالبات بأسـس الذوق السليم و الازياء المناسبة للجامعة.و يتم ذلك فى أجتماعات تعقد بناء على دعوة شخصية موجهة من المثقفة الى كل طالبة باسمها.و يكتب على بطاقة الدعوة (دعوة من أجل الصداقة الدائمة).و هكذا تدور المناقشات فى مختلف الامور بروح الصداقة، فتقبل الفتاة عليها.و تتقبل وجهة النظر السليمة.
أن هذه الفكرة جديدة و رائعة و فى رأيى أننا يجب أن نطبقها فى مختلف جامعاتنا. فبهذا الاسلوب وحده يمكن أن تقوم كل مثقفة بدورها كاملا،و يمكن أن تقف على مختلف مشاكل الطالبات العامة و الخاصة.و أن تعالجها العلاج الكامل و الصحيح.
المهم، لقد لاحظت أن عددا كبيرا من الطالبات،و بخاصة طالبات السنوات النهائية، يلبسن دبلة الخطبة. كنت أتوقع أن جو الاختلاط هو الذى أدى الى قيام علاقات من الحب السليم يسير فى دوره الطبيعى،و لكنى عرفت أن هؤلاء الطالبات مخطوبات لغير زملائهن. فالطالبة تدرك أن الحياة ليست مجرد عواطف.و أنما يجب أن يسيطر العقل،و أن يكون له المجال الاول.
تقول الطالبة (سهير مرتضى):
أننى لا أستطع أن أقترن بزميل لى بسبب واحد و هو أننى لا أعرف مستقبله،و من هنا فاننى لا أقيد نفسى الا بشخص مارس الحياة العملية.و وقف على حقائقها.
و تقول طالبة أخرى:
أننا نقدر الزمالة،و نتعاون مع زملائنا،و لكن الزواج.. لا و السبب أن الطالب فى هذه الفترة لا يكون ناضجا تماما.و لذلك يأتى اختياره نتيجة اندفاعات عاطفية قد لا تستقر و لكن الطلبة لهم وجهة نظر أخرى فى رأيهم أن الطالب يجب أن يختار شريكة حياته من بين الزميلات، لان الدراسة تعطيه فرصة دراسة اخلاقها،و الوقوف على ميولها.
فى ميدان الخدمة العامة
و بنات جامعة الاسكندرية يسهمن أيضا فى ميدان الخدمة العامة.و فى كل المشروعات التى تهدف الى النهوض بالمدينة وقفت الطالبات جنبا الى جنب مع الطلبة و كان من أول هذه المشروعات الحملة التى قامت بها الطالبات من أجل التبرع بالدم لبنوك الدم و كانت الطالبات فى مقدمة المتبرعين،و استمرت الحملة ستة أشهر أستطاعت أن تؤتى أروع النتائج.
و هناك أيضا مشروع مكافحة الحشرات بالمدينة.و قد قام على عاتق الطالبات: أذ قمن بتكوين فرق مختلفة قوامها 300طالبة. تحملن هذا العبء كاملا سواء من حيث المحاضرات،أو متابعة نظافة الشوارع، أو تبليغ البلدية،أو مراقبة العمال أثناء القيام بالعمل.
و ذهبت بنات جامعة الاسكندرية الى محافظة أسيوط ليسهمن فى تعبيد الطريق بين العاصمة و قرية بنى مر فى أبريل 1964.
و كل هذه الاعمال و غيرها تدل دلالة قوية و واضحة على أن طالبة الجامعة تدرك دورها كمواطنة، و تخدم الصالح العام.
و يقول السيد (محمد محمد حمزة) رئيس اتحاد الطلبة: ان جامعة الاسكندرية هى أولى جامعات الجمهورية التى تؤمن و تنفذ مبدأ الرحلات المشتركة و الزيارات المختلفة.و قد أدى ذلك الى قيام و تأكيد الروح الجامعية فى صورتها المثالية،و ظهر مبدأ التعاون و الصداقة الحقة.و لذلك فان على الجامعات الاخرى أن تتبع نفس الاسلوب من أجل روح جامعية جديدة و صادقة.
و الحقيقة أن الروح الجامعية تبدو واضحة أيضا فى تكوين اتحاد الطلبة. فبينما لم تستطع بنات جامعة أسيوط دخول الاتحاد. الا عن طريق التعيين، نجد فى جامعة الاسكندرية أن الانسة (أمل نجم) هى نائبة رئيس الاتحاد.و أن هناك 50طالبة أعضاء.
الفن و الثقافة
و انعاكاسات هذه الانطلاقة الكبيرة تبدو فى صور أخرى متعددة، حتى خارج نطاق الجامعة.
ففى محيط الجامعة نجد أول فرقة للفنون الشعبية.و تضم 25طالبة الى جانب عدد من الطلبة كذلك فأن المشرفين على النشاط الفنى فى الجامعة لا يجدون صعوبة فى العثور على العنصر النسائى، بل الاقبال الشديد يؤدى الى عمل تصفيات و اختيار الاكثر صلاحية.
أما خارج نطاق الجامعة! فنجد عددا من الجامعيات يعملن فى اذاعة الاسكندرية.و من بينهن (كفاية العطار) المعيدة بكلية طب الاسنان، فهى تعمل ممثلة فى الاذاعة المحلية.. (نادية ابراهيم) الممثلة الاولى بالاذاعة.
كذلك فان الفرق الموسيقية تضم عناصر نسائية.و من بينهن (أبتسام حمدى) العازفة الاولى فى فرقة الجاز. و هى طالبة ببكالوريوس الطب.
و بعد فهذه صورة حية لحياة بنات جامعة الاسكندرية.. فيها وعى و فيها تفتح،و فيها اقبال على الحياة الجديدة بكل أبعادها العميقة.و من هنا جاءت الصورة مشرقة كأزهار الربيع توحى بالامل و التقدم.. ككل شئ فى حياتنا الجديدة.
ساحة النقاش