إذا كان الله تعالى قد أذن لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض ، وتمادت قريش إيذائهم ..فان الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب ، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى يكون الدين كله لله . هجرة من الذنوب والسيئات ... من الشهوات والشبهات ... من مجالس المنكرات .. من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أول نبي يهاجر في سبيل الله بل مرّ بهذا الامتحان كثير من الأنبياء .. وقد أخبرنا الله تعالى بأن ابراهيم عليه السلام هاجر من موطنه إلى مصر وغيرها داعياً إلى التوحيد ، وأن يعقوب و يوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين إلى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته . وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر الى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون .
وهكذا .. كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات الأنبياء. وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسماً ، ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالنفس فقط مع الشعور بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل غامض، لا يدرى ما يسفر عنه من قلاقل وأحزان.
وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لما كانوا يحسون به من الخطر، فكان أبو سلمة من أول المهاجرين مع وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم،فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة. وكانت أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل صباح بالأبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها قلب أحد أقاربها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة التى فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقى بزوجك إن شئت، فاستردت ابنها منهم، وخرجت تريد الوصول إلى المدينة فى رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية وليس معها أحد من خلق الله. حتى إذا كانت بمنطقة التَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة وبعد أن عرف حالها رافقها حتى أقدمها إلى المدينة، و قال لها: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف .
وخلدت أسماء بنت أبي بكر ذكرها في التاريخ وحازت لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها نصفين لتشد طعام المهاجرَين ، رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر رضي الله عنه وقد تتابعت هجرة النساء في الاسلام حتى شرعت في القرآن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} - الممتحنة 10 - ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها حتى سنة 8هـ عندما توقفت الهجرة بعد فتح مكة واعلان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا ) .
وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى وذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم، قال: قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب).
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ مؤامرتهم له بقتله صلى الله عليه وسلم . فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يعرفون منه معلومة عن مكان الرسول ، ولما لم يحصلوا منه على شئ نافع جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدرى والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
ابنة النبى
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه وزوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم أول من هاجرا الى الحبشة على الرغم من قرب عهدهما بالزواج
ولما علم رسول الله صلى الله عليه و سلم بهجرتهما قال : انهما لأول من هاجر إلى الله بعد لوط ، وكانت رضى الله عنها فى آخر شهور حملها وتحملت كل المتاعب والآلام طوال الرحلة المجهدة .. وولدت لعثمان ابنهما عبد الله الذي كان أول مولود فى الإسلام بعد الهجرة الأولى
وعندما سرت الشائعات إن قريشا قد أسلمت فاشتاق المهاجرون إلى العودة إلى البلد الحرام ولم يقو بعضهم على مغالبة ذلك الحنين المستثار فتهيئوا للرحيل على عجل على حين فضل آخرون أن يلبثوا في مهجرهم ريثما يستيقنون مما قيل عن مهادنة قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت السيدة رقية و زوجها الصحابي الجليل عثمان بن عفان من العائدين
لما وصلت السيدة رقية رضي الله عنها إلى مكة علمت أن أمها السيدة العظيمة خديجة قد توفيت ولما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجد ابنته في قمة الألم والحزن لفراق أمها احتضنها وخفف عنها حتى هدأت نفسها وثابت الى الصبر والسكينة .
ولم يطل بها المقام كثيرا في مكة فهاجرت إلى المدينة .. وهناك مات ابنها عبد الله وهو صبي في السادسة من عمره بنقرة من ديك ، فأصابتها رضي الله عنها حمى شديدة حزنا على فراق قرة عينها ومكث الزوج العظيم بجوارها يمرضها ويرعاها إلى أن خرج المسلمون لغزوة بدر فأراد عثمان رضي الله عنه أن يلبي نداء الجهاد ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص له البقاء بجوار زوجته التي كانت تعالج ما يشبه سكرات الموت .. وتوفيت رضي الله عنها وقد جاء بشير النصر العظيم في بدر .
حقائق
إذا أردنا رصد دور المرأة في الهجرة بوجه عام، والهجرة النبوية على وجه الخصوص فإننا ندرك الحقائق الآتية :
-في الهجرة إلى الحبشة كان عدد الرجال أحد عشر رجلا وأربع نساء في رواية وفي أخرى أن أول عشرة هاجروا إليها كان نصفهم من النساء .
- في نفس الهجرة نجد أن الزوجات لم يفارقن أزواجهن بل صاحبنهم متحملات معهم مفارقة الأهل والعشيرة ،وصعوبة الرحلة ومشاق الطريق .
- لم يعلم بهجرة الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلا علي بن أبى طالب و أبو بكر و ابنتاه أسماء و عائشة- رضى الله عنهما-و من ذلك نستنتج أنه (صلى الله عليه وسلم) جعل أسماء و عائشة محل ثقته و سره و لم يخش منها على أمر الهجرة و هو أعظم حدث فى تاريخ الإسلام بدليل أنه لم يتحدث مع أبى بكر فى أمر الهجرة إلا بعد معرفته بأنهما وحدهما الموجودتان عنده ، و إلا لأخرجهما من البيت لينفرد بالسر هو و أبو بكر فقط.
- ولما كانت الرحلة طويلة ،فإنها تحتاج إلى إعداد وتجهيز ، ومن غير المرأة يجيد هذا الدور ؟ لقد دفع أبو بكر بالراحلتين- اللتين أعدهما للهجرة -إلى أسماء وعائشة فجهزتاهما
إذ صنعتا لهما سفرة في جراب وقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها
-وإذا كان الرحل سيمكث على أطراف مكة ثلاث ليال فإن التاريخ لم يجّهل دور المرأة ، ولم تقف هي بإيجابيتها إلى هذا الحد فقد ينفد الزاد وهنا لابد أن يستمر دورها ولا يتجمد في أي مرحلة من مراحل الدعوة مهما كان حجم هذا الدور ومهما كانت طبيعة المرحلة ، وهنا تكون المرأة أقدر على تأمين الزاد وهو دور يناسبها كامرأة كما ناسب أخاها عبد الله نقل الأخبار إذ هو بطبيعته أقدر وأوثق.
ومن ثم فإننا لا نستطيع أن نمر دون الإشارة إلى شخصية أسماء العجيبة وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة، تصعد الجبل الذى يعجز المسلم العادى صعوده لتوصل الطعام الى ابيها والرسول صلى الله عليه وسلم.
ساحة النقاش