إذا كانت الشرارة الأولي للإبداع التشكيلي المجسم والتي اطلقها مثال مصر مختار قد امتدت من البحث في جذور مصر القديمة واستلهام البيئة المصرية مع المؤثرات الغربية من الفن الأوروبي .. إلا أن الشرارة الثانية متمثلة في إبداع جمال السجيني امتدت مع كل هذا إلي استلهام الطراز الإسلامي والعمارة الريفية الفطرية والفن الشعبي .
وقد أعاد مختار الحياة إلى النحت المصرى بعد فترة انقطاع دامت لأكثر من 4000 سنة وجمع فى أعماله روح البيئة والعصر والتراث .. وكان ريفيا عاش طفولته بعمق الدلتا بين الحقول ومن هنا كانت تميمته الفلاحة المصرية والتى تألقت فى تماثيله من «حاملة الجرة» و«العودة من السوق» و«القيلولة» و«كاتمة الأسرار» و«الحزن» و«الراحة» وكانت «الخماسين» امرأة تواجه الرياح العاتية رسم فيها ملامح مصر من القوة وعنف المقاومة ومحاولة الانطلاق.
أما السجينى فكان قاهريا نشأ فى حى باب الشعرية بين نور وتوهج النبض الشعبى .. ارتبطت طفولته بعروسة المولد التى كان يطيل الوقوف أمامها فى مولد سيدى الشعرانى .. يتأملها فتدهشه بنظراتها المسكونة بالوداعة والبراءة والسذاجة ، وكانت أغنيته الطويلة التى شكلها وصورها بعد أن تربعت على عرش قلبه لتصبح مصر بين الرمز والمعنى بهمومها وأفراحها القومية فى أوقات التألق والازدهار والضياع والانكسار والقوة والانتصار .
حب لا ينتهي
فى قاعة «الزمالك» للفن جاء معرض الفنان جمال السجينى الشامل فى فن النحت وهو يعد من أجمل وأهم معارض الموسم التشكيلى الحالى .. خاصة وجمال السجينى يمثل الرائد الثانى لفن النحت المصرى بعد مختار.
وليس أجمل مما كتبه الابن مجد السجينى تعبيرا عن هذا الحب الذي لا ينتهى بينه وبين والده الراحل الكبير .. يقول : يبقى دائماً الحب والخير.. تبقى دائماً رائحة الورود .. يبقى الفن .. وتبقى الحياة مستمرة بقوة دفع الفن والحب .. ولاشئ غير الحب .. أكتب عن جمال السحينى .. والدى ومبدعى واستاذى الذى أعطى ثم أعطى .. هو انا وأنا فيه .. شعور جميل بالانتماء والارتواء .. شعورى بالفخر أن أكون ابنا لإنسان يحب وطنه مصر بناسها وأرضها ونيلها ونخلها .. أشكرك يا ربى على ما أعطيتنى .. أشكرك على أصولى وجيناتى .. وأحمدك على كل هذا الحب».
فى 7 يناير من عام 1917 ولد السجينى لأسرة من الطبقة المتوسطة بحى باب الشعرية .. هذا الحى الشعبى المسكون بقيم الود والشهامة والأصالة .. وكان جده يسكن حى الجمالية بجوار قصر الشوق .. ومن هنا كانت تأملاته تزداد توهجا فى منزل الجد حين يطالع دقة المشربيات ورائحة البخور تنطلق من ورائها .. وفى طفولته المبكرة بدأ يرسم .. فتحولت المآذن والقباب وأحياء الحسين إلى خطوط غنائية مع سحر المشربيات التى كان يرسمها تطل منها عروسة المولد .. مبتسمة حالمة .. حزينة .. مستغرقة فى دوامات من الدهشة .
وفى المدرسة الثانوية كانت نصيحة أستاذ الرسم أن يلتحق بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بعد أن بزغت موهبته وتألقت رسومه التى اكتست بها جدران المدرسة .
وحين تقدم إليها كان أول ماطالعت عيناه تلك التماثيل التى تقف فى أركان الكلية .. وهنا تذكر عروسة المولد التى أحبها وتمثلها كحورية من حوريات الأساطير فقرر على الفور اختيار قسم النحت والذى يستطيع من خلاله أن يشكل الطين ويصنع منه عرائس أحلامه .. وحصل على دبلوم فن النحت بامتياز بل وفاز بجـائزة مختار عام 1937.
شجرة فنية
سافر السجينى فى بعثة دراسية إلى باريس بعد تخرجه ولكن قيام الحرب العالمية الثانية أدى إلى تحويل بعثته إلى روما ثم العودة إلى أرض الوطن دون أن يتم دراسته عندما دخلت إيطاليا الحرب .. وعمل بالتدريس بالفنون الجميلة وسافر مرة أخرى وعاد عام 1950 بعد أن حصل على دبلوم فن النحت من أكاديمية الفنون بروما ودبلوم فن الميدالية وسك النقود .. وتدرج فى التدريس حتى وصل إلى رئيس قسم النحت بالفنون الجميلة .
وانضم السجينى إلى شجرة أستاذه رائد التأثيرية يوسف كامل حسين تزوج ابنته هدى عام 1944 وانجبا ابنهما مجد فى أوائل الخمسينيات فتوج الاحتفال ببهجة المولود الجديد بلوحة ضمت الأسرة الكبيرة بكل أعضائها وهم يقدمون التهانى مع الهدايا : الجد يوسف وزوج خالة الطفل كامل مصطفى عن الفنون الجميلة بالإسكندرية فيما بعد وزوج الخالة الثانية حسنى البنانى رئيس قسم التصوير بالفنون الجميلة بالقاهرة وزينب السجينى ابنة العم والأستاذة بالتربية الفنية وبقية أفراد الأسرتين.
وقد كانت بدايات الإبداع لدى السجينى رمزية ارتباطا بالظروف التى يمر بها المجتمع قبل الثورة مثل تمثال «صحوة الفلاح» من البرونز والذى شكله بملامح من القوة والصلابة فى سطوح تكعيبية وقد صور فيه معاناته بعيون غائرة وصدر عار .. أيضا جاءت منحوتته «رجل فى دوامة» صورة عاكسة وصادمة للإنسان المحاصر مكبلا بتشابكات وتقاطعات تحد من حركته .. وقد ظهرت آثار عشق السجينى للعمارة الريفية الفطرية والطراز الإسلامى .. وتمثل منحوتته «البيت» صورة شديدة التألق لروح العمارة التلقائية .. وبالتدريج أصبحت تماثيله تشع بالروح الإسلامية على اللمسة الفطرية كما فى منحوتاته للقرية التى يتوحد فيها البشر مع البناء فى أسلوب أرابيسكى يزدحم ويتوحد بالقباب والمآذن مع البشر.
أما عروسة المولد فقد خلع عليها ملامح مصر .. وأصبحت بطلة مميزة فى أعماله صورها تحتفل بليلة زفافها فى موكب الحضارة راكبة فوق ظهر «اتان» يحيط برأسها الشامخ مروحة مستديرة كتلك التى تحيط بعروسة المولد الشقية .. وفى أكتوبر العظيم .. جاء تمثاله العبور والذى يقف حاليا فى مدخل بنى سويف .. فلاحة عملاقة شامخة فيها ملامح مصر بكل قوتها وحنانها وطيبتها وهدوئها .. تمسك بيدها غصن الزيتون وتفرد الأخرى ترحب بالقادمين .. مسكونة بحركة الجنود البواسل من أبنائها .. كما صور ملحمة العبور مرة أخرى من خلال عروس متوحدة مع جنود مصر .. فى انطلاقة أخرى .. تتعدد فيها المستويات من البارز والغائر مع الحركة فى مسطحات هندسية .. هذا بالإضافة إلى تماثيله العديدة مثل «مصر .. المستقبل» بهيئة امرأة نفرد ذراعها .. بنظرة أمامية تكاد تنطلق من فرط الحركة .. مع تماثيله الأمومة والأرض .. والرجل العربى .
وفى ذروة من ذرى فنه تتألق تماثيل السجينى الشخصية من سيد درويش وجمال عبدالناصر .. وسيف وأدهم وانلى فى تشكيل واحد والشاعر رامى وعبدالحليم حافظ وعلى ومصطفى أمين والملحن على إسماعيل وتوفيق الحكيم .. مع وجه نوبى .. هذا بالإضافة إلى تمثاله الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقى والجالس حاليا فى حدائق بورجيزى بالأكاديمية المصرية بروما وتطل نسخة منه بحديقة متحفه على كورنيش النيل بالجيزة ونسخة ثالثة بحديقة الأورمان بالجيزة..
النحاس المطروق
وقد حول السجينى رقائق النحاس إلى أغنيات مرئية .. فى لوحات مشغولة كالدانتيللا تحتشد بالنقوش والتصاوير والعناصر والرموز والحروف التى ابتدع شكلها وإيقاعها .. فى مقابل الحروف الهيروغليفية التى نطالعها على جداريات المصريين القدماء .. كما فى مطروقاته النحاسية الرمزية البليغة «الحرية» و«شجرة المصير» و«النيل» الذى صوره فى هيئة حكيم يمتد بطول اللوحة .. والحرب والسلام .. و«الخطوة» التى ترمز إلى نهاية الملكية .. و«هيروشيما» التى جسد فيها مأساة القنبلة الذرية على اليابان .
فى غروب أحد أيام عام 1969 اصطحب المثال جمال السجينى مجموعة كبيرة من تماثيله إلى شاطئ النيل عند طرف جزيرة الزمالك وألقى بها فى النهر الواحد تلو الآخر .. وكأنه يلقى بفلذات كبده وجلس يراقب دوامات المياه وهى تبتلعها ثم انخرط فى البكاء .. ولقد جسدت هذه الحادثة معاناة فناننا الكبير وعبرت عن أزمته .. وكان كل طموحه أن يرى فى حياته .. وكان غزير الانتاج .. أعماله فى ميادين مصر الخالية .. أن يرى تماثيله تقف مع نهضة مصر وسعد زغلول لمختار ومصطفى كامل وإبراهيم باشا .. وغيرها .. على قلتها .. وما أكثر ميادين مصر .
وفى عام 1977 وكان يستعد لمعرضه بإسبانيا وهو معرض شامل فى النحت والتصوير والنحاس المطروق وقد نظمته وزارة الخارجية مع الهيئة العامة للاستعلامات .. وبعد نقله إلى مدريد توفى فناننا الكبير قبل إقامته .
وكان قبل وفاته بزمن قد نقش لوحة نحاسية باسم الوصية ورسم فيها نفسه مسجى فيما يشبه التابوت الفرعونى .. تحيطه رموز الحياة والفن ونقوش مخطوطة تقول : عاش من أجل مجتمعه عدوا للاستغلال والعبودية .. وسفيرا للحرية والسلام .. وهذا يكفيه .
سلام عليه وتحية إلى أعماله التى جسدت روح مصر وعمق مصر وخلودها على مر الأزمان .. جسدت بالنحت أسطورة وطن.
ساحة النقاش