الفنان جلال الحسينى
ولوحات فتيات الحبشة بسحر النيل
كتب :صلاح بيصار
ربط نهر النيل هذا النهر الخالد مصر بدول افريقيا.. وجعل من علاقة الجوار والتاريخ الواحد مع تسع دول تشترك فى مجراه بتنوع وثراء الأقاليم وحدة مشتركة .
ولقد صنع أطول نهر فى العالم تاريخ مصر وشيد حضارتها وخلع على أرضها ألوانا من السحر فعرفت الجمال وأهدته إلى الفن الذى باح بالتعبير والتشكيل وتألـــق باللون والإيقاع..
وكانت أول رحلة قام بها فنان مصرى إلى إحدى دول نهر النيل .. تلك الرحلة التى قام بها الرائد محمد ناجى إلى بلاد الحبشة فى الثلاثينيات من القرن الماضى باتفاق دبلوماسى وقد رسم فيها الناس والحياة والطبيعة كما رسم الامبراطور الاثيوبى فى صورة شخصية تعد من أشهر أعماله.
وفى أوائل الستينات من القرن الماضى أيضا قام الفنان حسين بيكار برحلة أخرى إلى تلك البلاد ذات الروح الاستوائية .. فكان ثانى فنان يذهب إلى الحبشة.. وكان ذلك فى إطار رحلاته إلى العالم من أجل عمل تحقيقات مرسومة نشرت فى ذلك الوقت بمجلة آخر ساعة .
شاعر الألوان المائية
والفنان جلال الحسينى شاعر الألوان المائية سافر إلى هناك فى رحلة فنية هذا العام فكان ثالث مصرى ينجذب لهذا السحر ويذهب إلى اثيوبيا من أجل نقل هذا العالم الاستوائى الحار .. والذى يتوهج بسحر الحياة بألوانها التى تتألق فى صخب وتغنى فى مرح وحيوية.. بقوة تعبيرية وشفافية وأناقة فكان معرضه بقاعة دروب والذى ضم أكثر من 30 لوحة .
وجلال الحسينى تأمل كل شىء هناك بعين الحب والفن.. بدءا من جمال الطبيعة والتى تمتد بالأشجار والنباتات التى تطفو على المياه والمرتفعات الجبلية وزرقة الأفق الداكن وعناقه لمياه النيل ساعة المغيب وأوقات الشروق .
كما صور فتيات الحبشة بتاج الحسن الذى هيأته سمرة النيل.. مع الملابس ذات الألوان الصداحة.. والتى عكست روح الحياة وطابع البيئة هناك .. تتوهج بالنقوش والزخارف والورود.. بدفء الأحمر الفوشيا والبرتقالى والأزرق الليلى والتركواز .. وقد تنوعت صور الحياة اليومية هناك للبشر وتوحدهم مع الطبيعة.. من حاملات الأوعية والحطب وعيدان الخضرة مع الأكواخ على خلفية من النهر الباسم .. بألوان هامسة ناعسة.. تشرق وتخبو وتتألق وتخفت من الضوء البهيج إلى الاعتام.. هذا مع فرح الحياة ومرحها فى الأسواق وتجمعات الناس فى الحقول .. بإحساس شاعرى تتنفس فيه الطبيعة وتكتحل بالتألق والأناقة والاشراق.
وما أجمل تلك الصور التى تضم النساء فى ثلاثيات يحملن الحطب والثمار.. فى أغطية وملابس من البهجة وابتسامات متفائلة .
كل هذا مع تدفق مياه الشلالات واتساع مساحة الخضرة وضآلة الإنسان وسط اتساع الطبيعة وتوحده معها .. وقد جسد جلال الحسينى أصحاب الحكمة والتأمل من الرعاة والحطابين فى لوحات من الصفاء تتدرج من خضرة المروج إلى مياه النهر الداكنة المشبعة بطمى النيل.. وحتى المرتفعات التى تتعانق وزرقة الأفق ..
التألق الصوفي
ومن بين أعمال الفنان الحسينى ذات التألق الصوفى تصويره لهؤلاء الرجال بالجلاليب البيضاء وأغطية الرأس .. يجلسون على عتبات البيوت ذات البوابات والشراعات التى تبدو من فرط رقتها أشبه بالدانتيلا فى نقوش من الحديد المشغول.. والفنان جلال الحسينى الذى نقل فى أعماله بطول تاريخه فى الابداع بهجة الحياة فى أبهى صورها من الزهور والورود والنخيل.. خاصة زهور المشمش وعباد الشمس .. كما همست بهديل الحمام وغناء الطبيعة المصرية.. وعمارة سيوة .. جاءت أعماله «لأثيوبيا صورة شخصية أو بروتريه» لهذا البلد الذى يشاركنا مياه النيل ويعيش معنا أحلامه وأحزانه وأساطيره.. من الحاضر إلى رحلته التاريخية الطويلة والتى تمتد من لآلاف السنين .
وقد جاء الأعمال فى شفافية جسد فيها الزمن فى نسيج من النغم .. أشبه بمرفأ حالم ومهدىء ويريح النفس ويغسل الروح والبدن .. جعلنا نردد قول الفنان بيكار حول الحسينى وعالمه الشاعرى .. لاشك أن جلال السحينى يرسم بماء معطر بقطرات من الشعر والنغم .
تحية إلى شاعر الألوان المائية الفنان بعمق تلك المساحات التى تمثل حوارا بليغاً .. حوارا تشكيليا تجاوز لغة الكلام .. ربطنا بأثيوبيا الجارة الصديقة وجدد سيرة النيل من المجرى إلى المصب.
الفنانة سوسن عامر
وشبابيك البنات
سحر خاص تتميز به أعمال الفنانة سوسن عامر .. سحر يجسد تعبيرية الفن الشعبى بطول التاريخ على ضفتى الوادى والدلتا.. وقد جسدت أغنية طويلة أو ملحمة تعبيرية بلمسة عصرية جاءت مفعمة بروح الفن المصرى القديم وايقونات الفن القبطى وايقاع الفن الإسلامى خاصة فى العصر الفاطمى من عروسة المولد التى تتوهج بسحر اللون والنور بعيون لوزية هامسة محلقة .
الأصالة والمعاصرة
وأعمال الفنانة تتجسد فيها العلاقة بين الموروث والوافد والأصالة والمعاصرة والتراثى والحديث .. من خلال تلك العناصر والمفردات التى تنقلنا الى أعمق أعماق مصر .. الزمن والتاريخ.. وحتى آفاق العصر.. وما نشهد حاليا من تحولات ومتغيرات بدءا من الطيور والأسماك والنخيل والبيارق والاعلام والجياد المرحة البيضاء والشموس والأقمار .. مع الصبايا والرجال الاشداء والشباب من أبناء النيل .. وتبقى أيضا عروسة النيل أو عروسة الحكايات ملكة متوجة محفوفة بالطيور والزهور والشرائح المذهبة والمفضضة .. كل هذا فى إيقاعات تعكس تلك الروح المتفائلة والتى تطل علينا خاصة فى الاحتفالات الشعبية والمواسم والأعياد.. وهى تنتقل بنا من الحس التعبيرى الشعبى إلى الخيال الفنتازى الذى يتعانق وروح الأسطورة المصرية . وربما كانت لوحة الفنانة سوسن «فتاة وسمكة وطيور» بمثابة أيقونة لعالمها الفنتازى الشاعرى .. وقد صورت فتاة صغيرة بملامح البراءة تمتطى سمكة كبيرة فى فضاء اللوحة .. وتبدو فى حراسة أسراب من الطيور البيضاء .. محفوفة بها من أعلى .. أشبه بمظلة تنساب بالحركة فى كل اتجاه .. وكأنها رحلة إلى المستقبل تركب فيها أجواز الفضاء .. على أمل اللقاء بالحبيب المنتظر .. رجل المستحيل ..
وإذا كانت أعمال الفنانة تنتمى للتعبيرية الشعبية الحديثة.. فقد جسدت فى لوحة التحطيب ذنيا الزروع والاشجار وانخيل مع اثنين يتقاربان ويتجاذبان حيث تتلاحم العصى .. كل هذا فى سحر الأحمر النارى والأخضر المشوب بالأزرق والأصفر البهيج والبرتقالى مع لمسات من الأسود الذى يؤكد العناصر وينقلنا من الواقع إلى الخيال ومن الصور الأليفة إلى الحلم .
والجميل فى أعمالها أنها تمثل أيضا خروجا على الايقاع الشعبى والانتقال إلى ايقاع تعبيرى آخر جديد .. له قوامه وذاتيته وله لغته التعبيرية الخاصة.. يشجى ويطرب ويبهج .. يجسد معنى الفن.
وفى إحدى لوحاتها صورت أسطور ايزيس وأوزوريس .. حين نطالع فتاة طافىة على المياه .. وعلى الشاطىء جواد أبيض يعكس قوة الحياة فى تجددها واستمرارها .. كما يعكس السفر والرحيل إلى مدن مجهولة لم نرها بعد .
عبلة وعنتر
وتبدو عبلة فتاة حسناء على جمل داخل هودج .. تطل بابتسامة مع الطيور والزهور والزخارف والنقوش .. وكأنها مصر الثورة.. مصر الرخاء والسلام فى انتظار فارسها المنتصر بعد رحلة المعاناة التى استمرت لأكثر من ثلاثين عاما .
ولاشك أن لوحة سوسن عامر «'شبابيك البنات» تعد من أجمل أعمالها وهى تجسد مجموعة من النبات أجمل الكائنات .. كل فتاة تعبير.. وكل تعبير مساحة من الجمال تطل من فتحة شباك.. شبابيك للحلم والبهجة فى اشكال قوسية من أعلى .. وفى وسط اللوحة أسفل تلك الفتحات الصغيرة نطل على شباك ضخم يجسد فتاتين فى حوار لا ينتهى مع الخضرة والزرع والشجيرات والنخيل.. وهى صورة لفتيات مصر فى إطلالة على فارس الحكايات .
فى أعمال الفنانة سوسن نلتقى مع المودة والسماحة والحب والسلام وحوار الأشياء وتصالحها بين الحلم والواقع والحياة والخيال فى أغنية لا تنتهى تفتح شباكا للأمل والأمنيات التى نود أن تتحقق .
ساحة النقاش